أُقدم في هذه المادة شهادة عن تجربتي الشخصية حول تغطية قناة “العربية” للأحداث التي شهدتها محافظة القطيف، شرق السعودية، وتحديداً بلدة العوامية، في السنوات الممتدة بين 2011 و2017، وهي أحداث جاءت عصيبة على المواطنين وسكان المحافظة، لما صاحبها من أعمال شغب وممارسات خارجة على القانون، ما لبثت أن استحالت أعمالاً مسلحة استخدمت فيها الأسلحة الرشاشة وقنابل المولوتوف، وأدت إلى مواجهات بين مجموعات شبابية والقوات الأمنية التي سعت لأن تفرض الأمن بأساليب مختلفة، إلا أن إطلاق النار وسقوط جرحى وقتلى دفع الحكومة السعودية لأن تتخذ إجراءات أكثر حزماً، وتحول المسمى الوصفي لما يجري من “أعمال شغب” إلى “إرهاب”، خصوصاً عندما بات واضحاً استهداف الخلايا “الإرهابية” لرجال الأمن والمقرات الرسمية والممتلكات العامة، وظهور عدد من المسلحين بشكل علني في الطرقات، وتحديداً في بلدة العوامية، وهو التطور الذي اعتبر خطيراً لا يمكن التساهل معه.
وبحسب مصدر متابع، كانت التعليمات تقضي بـ”الالتزام بأعلى درجات ضبط النفس، وعدم استخدام السلاح، إلا في حالة واحدة، إذا تعرض رجال الأمن أو المواطنون لإطلاق نار”، يقول المصدر، مضيفاً “كانت الأوامر بألا يتم استخدام السلاح إلا تجاه المصدر الذي تأتي منه النيران، حفاظاً على أرواح المواطنين”.
معارك السوشيال ميديا
وقوع عمليات إرهابية في محافظة القطيف، جعل السجالات تحتد في وسائل التواصل الاجتماعي، وتحديداً منصة “تويتر”، التي أصبحت مساحة للشتائم الطائفية بين المتطرفين، وجرت عبرها حملات تحريض من “المتشددين” ضد المواطنين في محافظة القطيف، متهمين إياهم بأنهم “خونة” و”عملاء لإيران”، وهو الاتهام الذي ينفيه المواطنون في المحافظة، ويعتبرونه جزءا من الدعاية المضادة.
قنوات تلفزيونية مثل “صفا” و”وصال” هي الأخرى كانت تروج لخطاب طائفي، يقابلها خطابٌ تحريضي على الخروج إلى الشارع من قناتي “نبأ” و”المنار”، في وقت ازدادت فيه وتيرة العمليات الإرهابية للخلايا المسلحة في العوامية. ومع كل عملية يرتفع منسوب التطرف، خصوصاً أن تنظيم “داعش” قام بعمليات إرهابية في السعودية، استهدف فيها مساجد وحسينيات، وهو ما جعل الاستقطاب المذهبي عنيفا.
المتابعة الحذرة
وسط هذه الأجواء، كانت قناة “العربية” تتابع الأحداث بحذر ومهنية من خلال الاعتماد على المصادر الموثوقة. وكانت تسعى لأن تكون أكثر توازناً، وسط أجواء متوترة في “منصات التواصل الاجتماعي”، كان فيها التراشق المذهبي في أوجه بين المتعصبين والحزبيين.
كان حينها عبد الرحمن الراشد مدير عام “العربية”، وكنتُ عدتُ إلى العمل مجدداً في القناة بعد انقطاع دام سنوات عنها، واشتغلت على متابعة التطورات في السعودية وإيران والعراق ودول الخليج العربي بشكل عام، وحركات “الإسلام السياسي الشيعي” بشكل خاص.
الراشد انتهج سياسة تعتمد على دقة متابعة التطورات الميدانية، خصوصاً أن ما حصل في سوريا من قتالٍ عنيف، ومشاركة لخبراء إيرانيين وقوات لـ”حزب الله” اللبناني، وميليشيات شيعية وسنية، تتصارع؛ كل ذلك جعل التغطية الإخبارية تزداد حساسية، ولذا من المهم انتقاء الألفاظ وطرائق المعالجة واختيار ضيوف مناسبين – قدر الإمكان – يبتعدون عن اللغة الطائفية.
كنت حينها أقدمُ مجموعة من التوصيات والبحوث الإحصائية وأيضاً تصوراً للأوضاع في الملفات التي أشرت لها أعلاه. ولذا، شاركتُ في اقتراح الضيوف المناسبين، كما زوايا المعالجة الأقل حدة والأكثر شمولية وموضوعية.
بعدها عندما تولى الدكتور عادل الطريفي رئاسة قناة “العربية”، واصلت ذات المهام، قبل أن يصبح الطريفي وزيراً لـ”الإعلام” في السعودية العام 2015، ليتولى الإعلامي تركي الدخيل إدارة قناتي “العربية” و”الحدث”، في فترة امتدت حتى العام 2019.
تطورات وسط العوامية
خلال فترة الدخيل، كانت الأحداث الميدانية في محافظة القطيف شرق السعودية في تصاعد، بسبب تزايد نشاط المجموعات الإرهابية، التي كانت تلاحقها قوات الأمن، وتلقي القبض على بعضها، أو تدخل في اشتباكات مسلحة مع آخرين.
عمل الإرهابيون على استهداف رجال الأمن، وقاموا أيضاً بتكثيف نشاطات التجنيد واستقطاب الشباب الذين تجمع عدد منهم بالعشرات في المنطقة القديمة بوسط العوامية، والتي كانت تعرف بـ”المسورة”، حيث الأزقة الضيقة والبيوت الصغيرة المتلاصقة التي كان المسلحون يختبئون فيها، رفقة عتادهم وقنابلهم اليدوية.
العام 2017 أخذت السلطات السعودية قراراً بأن تقوم بإخراج المسلحين من “المسورة”، وذلك من خلال إخلاء المنطقة من المدنيين وتوفير أماكن سكن بديلة مؤقتة لهم، ومواجهة المسلحين للقبض عليهم، أو سيكون الموت مصير من يقاومون ويطلقون النار.
بدأت العملية المعقدة، وبالفعل تم إخراج الإرهابيين من “المسورة”، حيث قتل عدد منهم، وهرب آخرون، وألقي القبض على المتبقين، وتم إزالة المباني القديمة، وتعويض المواطنين المتضررين وأصحاب المنازل، ومباشرة تم البدء في تنفيذ مشروع تطوير “وسط العوامية”.
هذه الأحداث واكبتها “العربية” بدقة كبيرة، وكنت على تواصل مع الزملاء في غرفة الأخبار، وتحديداً مع الصحافيين في “نشرة الرابعة”، من أجل تأمين تغطية خبرية مهنية، حيث كنت أبعث لهم البيانات التي تصدرها الشخصيات الوطنية والدينية في القطيف، المعارضة للعنف والإرهاب، وأتواصل مع الضيوف في المنطقة من أجل استضافتهم، وأقترح نقاطا معينة تهم الرأي العام في المملكة بخصوص مجريات الأحداث في العوامية، ساعين قدر الإمكان لتجنب الخطابات الطائفية والتحريضية.
التطورات الإقليمية
بعد أن غادر تركي الدخيل “العربية” وأصبح سفير المملكة العربية السعودية في العاصمة الإماراتية أبوظبي، العام 2019، أتى الدكتور نبيل الخطيب مديراً لشبكة “العربية”، حيث واصلت القناة اهتمامها بملف “الشيعية السياسية”، وهذه المرة من زاوية تطور الأحداث في إيران والعراق ولبنان، وكان ذات الدور الذي مارسته قبلاً، واصلته مع الخطيب، الذي كان هو الآخر كما سابقيه، يسعى لعملٍ إخباري متزن بعيد عن ضغط الخطابات المتشنجة.
تالياً، وبعد فترة قصيرة من رئاسة الخطيب، عين الصحافي السعودي ممدوح المهيني مديراً لـ”شبكة العربية” في أكتوبر 2019.
الخطاب المدني
ربما من حُسن حظ “شبكة العربية” أن المهيني ومن سبق من مدراء، هم شخصيات صحافية بتوجهات مدنية ليبرالية، متحررين من الفكر المتشدد، وأصحاب نظرة علمانية لمعنى الدولة، ويعتقدون أن العلاقة بين مكونات المجتمع المختلفة قائمة على التنوع والتعايش والاحترام المتبادل، وهذا الإطار الفكري الحداثي، انعكس بشكل إيجابي على سياسات القناة، وجعلها بعيدة عن التطرف والكراهية والخطابات الطائفية.
المهيني، تعامل هو الآخر مع الملفات المعقدة دينياً بهدوء، بعيداً عن تأثير الخطابات الأصولية، حيث كتبتُ عندما كان ممدوح المهيني رئيساً لتحرير “العربية.نت” مجموعة موادَ احتوى عدد منها معلومات تنشر لأول مرة، تتعلق بـ”حزب الله الحجاز” و”التيار الشيرازي” و”المرجعية الدينية” للمسلمين الشيعة، وحضرتُ كمحلل سياسي ومعلق على ملفات إيرانية وعراقية وسعودية عدة، كزيارة البابا فرانسيس للعراق ولقائه المرجع السيستاني، واغتيال المفكر اللبناني لقمان سليم، وإلقاء القوات السعودية القبض على عدد من المطلوبين الأمنيين في المنطقة الشرقية، وجميعها ملفات كانت شائكة، كان أحد أبرزها تقريرا أعددته حول تدريب “حزب الله” لبنان لمجموعة من السعوديين في معسكراته الخاصة؛ وكانت “العربية” في مختلف هذه الملفات تسعى دائماً لأن تكون بعيدة عن التحريض والطائفية.
بدءا بالراشد، ومن بعده الطريفي والدخيل والخطيب ووصولاً للمهيني اليوم، عملت “شبكة العربية” في سياستها، ومن خلال تجربتي الشخصية، ومعرفتي بتفاصيل ما يدور في أروقتها، عملت على أن تكون منصة مدنية، مهنية، بعيدة عن الاستقطاب الطائفي، لأنها تؤمن بأن “الإرهاب لا دين له”، وأن من وظيفة “الشبكة” أن تكون منصة للتنوير، والتحديث، ومساحة لتقديم ثقافة مدنية لا دينية، وهذا ما تعمل عليه حتى الآن، ومستمرة فيه.