ظلت السنغال واحة الاستقرار ونموذجا للتداول السلمي للسلطة في أفريقيا طيلة 60 عاما التي أعقبت الاستقلال، ولم تشهد انقلابات أو نزاعات قاتلة كالتي واجهتها مجموعة من الدول الأفريقية إلا في النذر اليسير، ما أتاح لها أن تحقق استقرارا سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، مع التزام كامل بالدستور، في الانتقال السلس للسلطة، فهل تصيبها لعنة التمديد، أم يتفوق الوعي الجمعي لتجاوزها؟
ما الذي أشعل شرارة الاحتجاجات؟
أثار استدعاء زعيم المعارضة ورئيس ديوان المراجعة السنغالي السابق عثمان سونكو للمحكمة احتجاجات عارمة في عدد من المدن السنغالية، على خلفية اتهامه باغتصاب عاملة في صالون تجميل، في عام 2021، إضافة إلى قضية أخرى يترافع فيها وزير السياحة السنغالي أليون سار -وهو أحد قيادات الحزب الحاكم- بتهمة التشهير والسب والتزوير بعد أن اتهمه سونكو باختلاس أموال من مشروع زراعي، وما زاد الأمر احتقانا هو مداهمة الأجهزة الأمنية لمنزل سونكو واقتياده عنوة إلى المحكمة، قبل أن تُفرج عنه.
كيف تطورت الأحداث جراء الاحتجاجات؟
توترت الأوضاع في العاصمة السنغالية دكار وعدد من المدن الأخرى بعد مواجهات بين مؤيدي عثمان سونكو والأجهزة الأمنية، حيث استهدف المتظاهرون الممتلكات العامة، وبعض المؤسسات الفرنسية، ومع إصرار سونكو لدعوة الشباب لمزيد من التظاهر والاحتجاج تطورت الأحداث:
- قامت الحكومة بتعزيزات عسكرية وأمنية مع الإعلان عن مظاهرات جديدة دعا إليها زعيم المعارضة سونكو.
- اتسعت الاضطرابات إلى خارج العاصمة، ووصلت إلى مدينتي تيس وسانت لويس، بعد أن اتخذت السلطات قرارا بحظر ومنع عدد من لقاءاته الجماهيرية، واحتج أنصاره مطالبين بالإفراج عنه.
- تم إغلاق عدد من المواقع الإخبارية لتغطيتها المظاهرات.
- تم إغلاق المدارس لمدة أسبوع.
- تم حجب مواقع التواصل الاجتماعي لساعات.
- تم رفع الحصانة عن سونكو تمهيدا لمحاكمته.
من عثمان سونكو؟
- عثمان سونكو هو سياسي سنغالي ومؤسس حزب الوطنيين “باستيف”.
- وُلد في مدينة تيس في عام 1974، تخرج في جامعة الشيخ “أنتا ديوب”.
- شغل كبير مفتشي الضرائب في السنغال.
- كان أصغر مرشح للرئاسة في 2019، وحصل على المركز الثالث.
- كان نائبا برلمانيا في الفترة ما بين عامي 2017 و2022، إضافة إلى شغله منصب رئيس بلدية زيغينشور.
- بدأ اهتمامه بالسياسة في عام 2014، ولكنه صعد بسرعة كبيرة.
- فصل من العمل بعد اعتزامه كشف ملفات فساد يقف وراءها مسؤولون في الدولة.
- يرفع سونكو في حزبه شعار “الأخلاق والعمل والأخوة”، ويصف نفسه بأنه “الرجل النظيف في محيط سياسي فاسد”، وفق صحيفة جون أفريك.
ما حقيقة القضية؟
منذ أن جرت الانتخابات التشريعية في السنغال في يوليو/تموز 2022 وبدأت الأوساط السياسية في السنغال بمناقشة سباق الانتخابات الرئاسية في 2024، تسربت أنباء عن نية الرئيس ماكي سال الترشح لولاية ثالثة، لاعتبارات سياسية وأخرى فلسفية كما يقول الباحث السنغالي عبد الرحمن كان.
بالمقابل أعلن سونكو نيته الترشح للرئاسة، وبرصيد من التأييد في قطاع الشباب الذي يمثل ما يزيد على 50% من سكان البلاد، ومع حظوظ من الشعبوية والكاريزما التي يملكها سونكو، بدأت الحكومة بتلفيق تهم عديدة لمنعه من خوض الانتخابات كما يقول وإفساح الطريق للحزب الحاكم سواء تقدم الرئيس الحالي للترشح أو أي مرشح آخر لا يشكل زعيم باستيف خطرا على ضمان فوزه.
ما الأوجه الأخرى للصراع السياسي؟
حملت الأحداث الأخيرة في السنغال في وجهها الآخر الصراع المبكر على الرئاسة في 2024 بين الائتلاف الحاكم والمعارضة في شخص عثمان سونكو:
أولا: بالنسبة لطرف الائتلاف الحاكم، يُنظر إلى عثمان سونكو باعتباره خطرا يهدد فرص فوزه بالحكم مرة أخرى بغض النظر عمن سيكون المرشح، فزعيم المعارضة الشاب يمكن أن يقلب الموازين ويحول مسار الحكم إذا وضعنا في الحسبان أنه:
– من إقليم كاسامانس -الذي يطالب منذ فترة بالانفصال- وبالتالي ما يشكله ذلك من تخوفات في المستقبل على مستوى البلاد خاصة أن الإقليم يعد الحاضنة الرئيسية لسونكو، مع التأكيد أن عثمان لا يحمل أي نزعات انفصالية.
– يحمل سونكو مشروعا يدعو إلى الاستقلال الحقيقي بطرد الحلفاء التقليديين للسنغال، أي فرنسا، وهو ما يجد صدى لدى الأوساط المدنية والشبابية والطلابية مثل جمعية “فراب” (ارحلي فرنسا)، والجمعية الشبابية “كفاية”، والحركات الطلابية في بعض الجامعات مثل جامعة “أنتا ديوب” وجامعة “غاستون بيرجيه” التي درس فيها عثمان، الأمر الذي يجد قبولا في المنطقة كلها، وهذا لا تتفق معه النخب الحاكمة ولا يخدم مصلحة الدولة العميقة في البلاد.
– يدعو إلى الخروج من النظام المالي الإقليمي الذي يُدار من قبل فرنسا ضمن مجموعة 7 دول في غرب أفريقيا وتستخدم عملة تُعرف “بسيفا فرانك” حتى يتحرر الاقتصاد السنغالي، ولهذا دلالات تتسق مع توجهات الدول التي قطعت علاقاتها بفرنسا مؤخرا.
ثانيا: وفي الطرف الآخر يرى عثمان سونكو أن الرئيس ماكي سال ومن خلفه الائتلاف الحاكم يخططون لمنعه من الترشح للانتخابات الرئاسية عبر تشويه سمعته وتلطيخ تاريخه أمام الرأي العام السنغالي، ولذلك لجأ سونكو للشارع قبل أن تصدر ضده أحكام ملفقة تستهدف مستقبله السياسي وتعطل مسيرته، وما زال يتحدى السلطات، بأنهم لا يستطيعون منعه أو إيقافه من الوصول إلى قصر الحكم.
هل هي لعنة الولاية الثالثة؟
رغم توتر الأحوال واضطرابها في السنغال مؤخرا وتوجيه التهم إلى المعارض عثمان سونكو منذ مارس/آذار 2021، إلا أنه لم تصدر أية أحكام ضده، فضلا عن إضافة تهم أخرى من شاكلة إثارة الشغب والفوضى، والقذف بحق وزير السياحة، وانتهاكات للسرية المهنية.
كما لم يصرح الرئيس ماكي سال بالترشح لولاية ثالثة، إلا أنه لم ينف ذلك صراحة، وأعلن الرئيس سال أنه سيناقش الأمر في الوقت المناسب، ما أثار بلبلة في الأوساط السياسية، وشكوكا لدى معارضيه. فهل هي “لعنة الولاية الثالثة”؟، كما يقول الباحث عبد الرحمن كان، وإلى أين يمكن أن تقود البلاد؟ وهل يُسكت الرئيس سال الأصوات المعارضة بإعلان عدم الترشح مرة أخرى؟
في المقابل، يبدو أن عثمان سونكو ما زال واثقا في قدرة مؤيديه على حمايته، فقد تم الإفراج عنه أكثر من مرة تحت ضغوط احتجاجات أنصاره من الشباب، فهل يستطيع سونكو استكمال مساره حتى الترشح تحت حماية أنصاره؟ أم ثمة تسوية يمكن الوصول إليها مع الدولة العميقة؟ أم تستخدم السلطة إبعاده عبر إصدار أحكام سجن تُقصيه لصالح أجندتها؟. هذا ما ستكشفه الأيام القادمة.