القدس المحتلة- أعادت الاحتجاجات التي تشهدها إسرائيل ضد خطة تعديلات نظام الجهاز القضائي، إلى الواجهة مجددا السجال بشأن انعدام وجود دستور، رغم مرور 75 عاما على إقامة الدولة على أنقاض الشعب الفلسطيني في النكبة.
وتعيش إسرائيل حالة توتر وغليان سياسي فتحت النقاش بين تياراتها السياسية وحركاتها الدينية المختلفة بشأن صياغة الدستور.
وتعالت الأصوات وتباينت المواقف بشأن تحويل قوانين الأساس (من القانون الأساسي) إلى وثيقة تؤسس إلى صياغة الدستور، حيث أتت هذه القوانين للتغطية على الخلافات والانقسامات والأزمات الداخلية بإسرائيل.
ومع تصاعد الاحتجاجات على ما أسمته حكومة نتنياهو “الإصلاحات القضائية”، انقسمت التيارات الحزبية والسياسية والدينية والاجتماعية بشأن الدعوات لصياغة الدستور وفقا لـ “إعلان الاستقلال” في 14 مايو/أيار 1948، حيث كان يجب على الجمعية التأسيسية إعداد دستور بحلول الأول من أكتوبر/تشرين الأول من ذلك العام.
تيارات وانقسامات
تنبع صعوبات صياغة الدستور من الخلافات بين مختلف التيارات السياسية بشأن طبيعة وهوية إسرائيل “كدولة يهودية وديمقراطية” كما تسمي نفسها، والانقسام الاجتماعي والسياسي حول بنود ومحاور الدستور التي من المفترض أن تنظم الحقوق والواجبات والحريات والواقع القضائي والسياسي والاجتماعي والديني والاقتصادي.
وألقى غياب الإجماع بين الإسرائيليين حول التعريف العام للدولة وهويتها، والخلافات بشأن “دولة الشعب اليهودي” أو “دولة كل مواطنيها”، بظلاله على المبادرات التي قدمت لصياغة الدستور.
ومع تجدد دعوات أحزاب بالمعارضة لوقف ما وصفته بـ”الانقلاب” على القضاء والتوجه لصياغة دستور لإسرائيل، طفت على السطح الخلافات بشأن العلاقة بين الدين والدولة، والتوراة كمصدر للتشريعات، والصراع بين القومية والديانة اليهودية والانقسامات بين العلمانيين والمتدينين.
خلافات منذ التأسيس
يقول أستاذ القانون بكلية الحقوق في نتنانيا جوشوا سيغيف للجزيرة نت، إن الخلافات حيال عدم وجود دستور تعكس “الحالة الطبيعية” للشعب اليهودي، فرغم الإجماع بين اليهود على أنهم سيحصلون على حق تقرير المصير في إسرائيل، فإن الخلافات اتسعت داخل الحركة الصهيونية وتبلورت تيارات مختلفة فيها منذ تأسيسها عام 1897، أبرزها الصهيونية العمالية، والصهيونية التحريفية، والصهيونية العامة، والصهيونية الدينية القومية.
ويعكس غياب الدستور في إسرائيل برأي سيغيف “الخلافات بين مختلف الشرائح والتيارات اليهودية”، التي تتمحور بالأساس حول هوية إسرائيل كدولة “يهودية ديمقراطية”، وحول علاقة الأرض والديانة اليهودية، والحريات وحقوق الأقليات وجوهر حقوق الإنسان.
واستعرض سيغيف المواقف الإسرائيلية بين مؤيد ومعارض لصياغة الدستور، مشيرا إلى أن الخلافات تتمحور حول المبنى الهيكلي لنظام الحكم، وخاصة حول ما إذا كان من الضروري قبول دستور رسمي مكتوب كجزء لا يتجزأ من إقامة نظام ديمقراطي، ومنح كامل الحقوق لكافة الأقليات القومية والدينية والاجتماعية.
ويبين أستاذ القانون أن الخلاف حول مسألة الدستور تثير احتمال اندلاع حرب ثقافية بين المتدينين والعلمانيين، وخاصة بشأن اعتماد التوراة للتشريع في الدولة أو الاكتفاء بالكنيست كمصدر للتشريعات. وهو الأمر الذي من شأنه أن يعرّض “الفكرة الصهيونية للخطر” كما يعتقد البعض، ويعزز الطرح الذي يدعو إلى اعتماد الدستور فقط بعد “تجمع الشعب اليهودي من الشتات”.
قوانين الأساس كبديل
ووسط الخلافات بين مختلف الشرائح الاجتماعية والدينية والتيارات السياسية بإسرائيل بشأن صياغة الدستور، تبلورت فكرة قوانين الأساس، حيث شرّع الكنيست 14 قانونا أساسيا بدلا من الدستور الرسمي، وهي التي تتعامل مع الترتيبات الحكومية ومع “حقوق الإنسان”.
وأتت فكرة قوانين الأساس وفقا لقرار لجنة برلمانية صادر في 13 يونيو/حزيران 1950 وتبنته الجمعية التأسيسية الإسرائيلية للدستور، بحسب توجيهات رئيس الوزراء في حينه دافيد بن غوريون.
لكن الترتيبات الحكومية لتنظيم العلاقات بين الدولة والمواطن والبدء بتشريع قوانين الأساس أبقت على السجال بشأن يهودية الدولة وحقوق الأقليات، في حين عمقت قوانين الأساس الخلافات بشأن مساحة “الوطن القومي للشعب اليهودي” وحدود إسرائيل بعد احتلال الضفة الغربية والقدس وقطاع غزة والجولان السوري في حرب 1967.
وأمام معضلة صياغة الدستور، ما زالت إسرائيل دون حدود معرفة ومتفق عليها بين الإسرائيليين أنفسهم، وكذلك الخلافات بشأن ما يسمى القومية اليهودية، والديانة اليهودية، والاحتكام أيضا إلى تعاليم التوراة في الحياة اليومية إلى جانب تشريعات الكنيست.
الدستور كحل لمأزق “خطة الإصلاحات”
من وجهة نظر المختص بالقضاء ونظام الحكم رون حريس، فإنه إذا لم يكن الحل للطريق المسدود الذي وصلت إليه حكومة نتنياهو في “خطة التعديلات التشريعية” بصياغة دستور، فسيتعمق الشرخ في المجتمع الإسرائيلي، حيث لا يستبعد أن تصل الأوضاع مستقبلا إلى “حرب بين الأخوة”.
وأوضح حريس أن الحل للخروج من “المأزق” هو إما صراع محتدم أو اتفاق دستوري بين مختلف مركبات المجتمع الإسرائيلي والمعسكرات السياسية والتيارات الدينية، مشيرا إلى أن “أحد أسباب الوصول إلى الأزمة هو أن الأدوات الدستورية في إسرائيل عُلّقت خلال عملية تطويرها وصياغتها”.
وأشار في حديثه للجزيرة نت، إلى أنه في ظل خطة حكومة نتنياهو للتعديلات القضائية، ليس من الواضح ما هي مكانة القوانين الأساسية. وعليه، يجب أولا استكمال تطوير الأدوات الدستورية، وعندها فقط يمكن التفاوض حول تفاصيل الترتيب الجديد بشأن التعديلات القضائية التي من المفروض أن تؤسس إلى صياغة دستور لإسرائيل.
ويعتقد أن إسرائيل ملزمة بالتوصل إلى تفاهمات بشأن التعديلات القضائية، وصياغة دستور يضمن حماية الحقوق التي تعتبر حاسمة بالنسبة للفئات الضعيفة، وكذلك للفئة القوية والمسيطرة، بحيث تشمل الحق في الحياة والملكية والحريات وإقامة الجمعيات وحرية التعبير وحقوق المتهم.
ويرى أن أفضل طريقة لترسيخ هذه الحقوق بصياغة دستور محصّن يمكن أن يغير الحقوق الراسخة فيه فقط بأغلبية خاصة، ويؤدي لفصل السلطات مع الحفاظ على التوازنات، وتقسيم الكنيست إلى مجلسين، مع بقاء سلطة قضائية مستقلة تفرض سيادة الدستور على تشريعات البرلمان.