الجزيرة نت زارت بيوتهم.. كيف مر اليوم الأول من رمضان على أهالي شهداء جنين؟ | سياسة

جنين- في الطريق إلى مقبرة مخيم جنين للاجئين وسط مدينة جنين، يلف الصمت السيارة التي تقل عائلة الشهيد معتصم الصباغ (22 عاما)، ودموع سخية تنزل على وجنتي والدته، هدوء في المركبة يقطعه صوت الباعة من الشارع “زينة رمضان بـ10 شيكلات”.

تغير مشوار اليوم الأول من رمضان لعائلة الصباغ، فبدل الذهاب إلى مركز المدينة رفقة معتصم لشراء احتياجات وجبة الإفطار والحلويات، توجهت الأسرة إلى زيارة معتصم في قبره، وأمام القبر تجلس ناهدة صباغ (والدة معتصم) وتحدث شاهد القبر، توجز له أحداث الأيام الماضية، وتحدثه عن زيارة أصدقائه لها يوم أمس، وترسل له الدعوات قائلة “الله يرضى عليك يا معتصم”.

تقول ناهدة “كل شيء ناقص من دونك يا معتصم، رمضان ناقص من دونك، طاولة الطعام ستكون ناقصة، وأنا لن أطبخ الأكلات التي كنت تحبها”.

انتهت زيارة المقبرة، وعادت عائلة معتصم إلى المنزل، في المنزل لا شيء يدل على بدء الشهر الفضيل، حتى موقد النار في المطبخ لم يشعل على الرغم من اقتراب موعد الإفطار، وتقول شذا الصباغ شقيقة الشهيد معتصم إن “هذا أول رمضان من دون معتصم، ولأنه استشهد قبل قدوم الشهر بوقت قريب، لا يزال الحزن كبيرا وصدمة فقده حاضرة؛ والدتي لم تستطع أن تحضر أي طبخة اليوم، لذا قررت شقيقتي المتزوجة أن تعد وجبة وتحضرها”.

قوات الاحتلال تقتحم مدينة جنين مخيمها
اقتحام الاحتلال مخيم جنين كان مدعوما بمروحيات عسكرية (الجزيرة)

افتقاد وحسرة

تهمس شذا بعد أن تأكدت أن والدتها انشغلت في غرفتها “أنا عزمت أولاد خالي ليفطروا معنا اليوم علّ ذلك يخفف عن أمي، ويسد بعضا من غياب معتصم اليوم، ولم أقل لها، أخبرتها أن شقيقتي وعائلة خالي سيعدون لنا وجبة الإفطار، وذلك بعد أن اتفقت مع شقيقتي أن تطبخ في منزلها وتحضر الطعام إلى هنا”.

وتصف شذا شقيقها معتصم بالمزّاح، صاحب الخلق والدين، المواظب على صلاة الجماعة، وتقول إنه تعلق بالمقاومة مع بداية الاقتحامات لمخيم جنين، ورغم عمله في مدينة الناصرة مع بداية الأحداث عام 2022، فإنه كان يشارك في دعم المقاومة على صفحاته على مواقع التواصل، ومع استمرار الاقتحامات الإسرائيلية لمخيم جنين واغتيال المقاومين ترك معتصم عمله في مدينة الناصرة وعاد إلى المخيم.

وتابعت أنه “خلال شهر رمضان الماضي، بدأ خروج معتصم المتكرر من البيت ليلا، كان يقول لنا إنه يخرج للسهر مع أصدقائه، لكن الحقيقة هو أنه كان يخرج للتصدي لاقتحام جيش الاحتلال في كل مرة”، وتضيف “كان كتوما جدا، عرفنا أنه كان يشتبك مع جيش الاحتلال بعد استشهاده من أصدقائه، لم يخبرنا بذلك أبدا، لقد أمضى عاما كاملا في التصدي والاشتباك ونحن لا نعلم”.

واستشهد معتصم الصباغ (22 عاما) في السابع من مارس/آذار الجاري، خلال اقتحام قوة خاصة لمدينة جنين لاغتيال الشهيد عبد الفتاح خروشه الذي كان يتحصن في منزل داخل المخيم، بعد أن طاردته إسرائيل لاتهامه بقتل مستوطنَين في عملية إطلاق نار على سيارتهما في بلدة حوارة جنوب نابلس فبراير/شباط الفائت.

دموع لم تجف

وبعد أسبوعين من استشهاده، استقبلت عائلته اليوم الأول من رمضان بكثير من الوجع؛ تقول شقيقته شذا إن “يوم أمس كان صعبا جدا في البيت، دموع والدتي لم تجف، وعند السحور لم يستيقظ أحد من العائلة، لم نتسحر”.

واعتادت العائلة أن يوقظهم معتصم للسحور، ومشاركتهم في تناول الطعام، كما اعتادوا أن يسأل والدته يوميا -في أثناء تناول وجبة الإفطار- عن احتياجاتها من السوق خلال أيام الشهر الفضيل. تقول شذا إن “معتصم الأخ الكبير بيننا، وهو من كان يحلي رمضان، واليوم طاولة الطعام ناقصة من دونه، ولو اجتمعت كل العائلة ستظل طاولة الطعام ناقصة من دونه”.

وتضيف أنه “كان يأتي عصر كل يوم من أيام رمضان يقف على باب المطبخ ويسأل أمي عن الطبخة، وعن نواقص السفرة وعن الحلويات”، وتصف شذا زيارتها وعائلتها لقبر شقيقها الشهيد معتصم بالشعور الغريب، الأخ الذي كان معهم دائما، اليوم يزورونه تحت التراب.

رمضان بلا طعم

وفي منزل الشهيد زياد الزرعيني في مدينة جنين غابت زينة رمضان، التي كان يعلقها زياد بيده على جدران منزله قبيل دخول رمضان، وعلقت مكانها صور زياد وملصقات طبعت له عقب استشهاده، وترفض والدة زياد تعليق الزينة في المنزل بعد استشهاد نجلها لارتباط الزينة بالفرح، وتقول إنها حزينة فلا داعي للزينة.

تتذكر حنين الزرعيني شقيقة زياد -التي تكبره بـ4 سنوات- طفولة شقيقها، وتتحدث بصوت حنون عن زياد الطفل الشقي ذي الطاقة الكبيرة، المحب للعب والاجتماعي، والمغامر وكثير الحركة.

وتقول إن “زياد كان يستقبل رمضان معنا، كان يشتري الزينة ويجهزها ويعلقها معنا على جدار المنزل وحوله، هذا العام ترفض أمي وضع الزينة وتقول أنا حزينة لن أقوم بالتزيين”.

وتضيف أن “رمضان هذا العام حزين، فاقد للبهجة التي كانت مصاحبة لقدومه، هو بلا طعم حرفيا”، وقبل يومين من رمضان كانت والدة زياد على موعد من هدية من زياد قدمها لها -بعد استشهاده عبر أصدقائه- بمناسبة “يوم الأم” الذي يصادف 21 مارس/آذار.

وكان زياد قد أوصى أصدقاءه بأن يشتروا قالبا من الحلوى لوالدته ويقدموه هدية لها مع مصحف، نيابة عنه في حال استشهاده، لأنه اعتاد شراء قالب الحلوى لوالدته في يوم الأم من كل عام.

تقول حنين “كانت هدية ثقيلة على والدتي، التي اعتادت أن يعايدها زياد ويهديها؛ كان من الصعب عليها أن ينوب أحد عنه في ذلك، ورغم مشاركة أصدقائه لها في هذه المناسبة، فإن حزنها كان واضحا وتأثرها كان كبيرا، كان يوما ثقيلا جدا على نفسيتها”.

هدية الشهيد زياد الزرعيني لوالدته بيوم الأم (يمين) وربطة رأس الشهيد معتصم الصباغ عند استشهاده (الجزيرة)

ذكريات زياد

وكعائلة الصباغ، اختارت عائلة الشهيد الزرعيني ألا تحضر وجبة إفطار لأول أيام شهر رمضان، وتطوع أقارب العائلة لتحضير الإفطار لهم هذا اليوم، تقول حنين إن “والدتي فضلت أن تمضي ساعات الصيام في النوم، لكي لا تصطدم بذكرى زياد وتفاصيله الغائبة في أول أيام رمضان”.

وتضيف حنين أن “زياد كان يشاركنا طعام الإفطار حتى وإن كان مناوبا في عمله، فهو يعمل في جهاز الضابطة الجمركية الفلسطينية، ويضطر للمناوبة في مقر الجهاز أحيانا، لكنه كان يحرص على مشاركتنا حتى في أيام مناوبته، ولو لـ5 دقائق في بداية الإفطار”.

وقبل ليلة من استشهاده في السابع من مارس/آذار الجاري، زار زياد منزل والده وسهر مع شقيقاته الأربع وشرب الشاي ومازح حنين مطالبا إياها بتعديل اسمها على فيسبوك من حنين أمين إلى حنين الزرعيني، فهو يرى أنه يجب أن يكنّوا أنفسهم باسم قريتهم التي هجروا منها عام 48 وهي زرعين لتأكيد أن العودة حتميه وإن طالت.

وتقول إن “زياد طلب مني حينها أن أزور أهالي الشهداء، وحين قلت له إني لا أحب الذهاب لبيوت العزاء، قال لي هذا واجب عليك مواساة أمهات الشهداء، خصوصا وأنت تعملين في وزارة الثقافة وتقومين بفعاليات اجتماعية مختلفة؛ أحس الآن أن هذه كانت وصية من زياد لي”.