بعد مرور ما يقرب من نصف قرن على وفاة زعيم الصين الجديدة ماو تسي تونغ، وموحدها تحت راية الشيوعية؛ لم تعد البذلة المميزة التي كان يرتديها وحملت اسمه محل تفضيل مَن خلفه من الزعماء وقيادات -أو حتى قواعد- الحزب الشيوعي الحاكم، الذين يظهرون في أغلب المناسبات مرتدين بذلات غربية.
ومتابعة اجتماعات الحزب الشيوعي الصيني، وكذلك أعضاء الحكومة، خلال السنوات القليلة الماضية؛ تكشف عن غياب “بدلة ماو”، ويتأكد الغياب بمقارنة صور القيادات الصينية التاريخية السابقة وصور القيادات الحالية في مناسبات مختلفة محلية أو خارجية، ويتضح الفرق بين لباس شيوعيي الماضي والحاضر.
الملاحظة لا تتوقف على الصين وحدها، بل تمتد لتشمل أيضا كوريا الشمالية جارتها وحليفتها الإقليمية، حيث يظهر زعيمها الشاب كيم جونغ أون في أكثر من مناسبة مرتديا بذلة غربية، ومعتمرا قبعة غربية أيضا، أما النساء الثلاث في حياته العلنية (الشقيقة والزوجة والابنة) فيرتدين أزياء غربية التصميم.
وبعيدا عن الجارتين الحليفتين، فإن “بدلة ماو” لم تعد تستهوي الرفاق في ما وراء الحدود، بعد أن كانت زيا مألوفا وشائعا بين الاشتراكيين والمفكرين والمثقفين الشيوعيين في غرب أوروبا وأستراليا ونيوزيلندا في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي للدلالة على ميولهم السياسية، عندما كانت الاشتراكية والشيوعية رائجتين.
تشونغشان أم ماو
في مطلع أكتوبر/تشرين الأول 1949، وبعد انتصار الشيوعيين في الحرب الأهلية الصينية وتأسيس جمهورية الصين الشعبية؛ وقف ماو تسي تونغ مزهوا بالنصر عند بوابة السلام السماوي في ميدان تيان آن مين (وسط بكين)، ليعلن تأسيس جمهورية الصين الشعبية، التي غيرت حياة الملايين، وارتدى “القائد العظيم” سترة فضفاضة بأزرار وياقة عالية وبنطال واسع، وسرعان ما عُرف هذا الزي في جميع أنحاء العالم باسم “بدلة ماو”.
منذ ذلك التاريخ، أصبح ارتداء مثل هذه البذلات على نطاق واسع من قبل المواطنين الصينيين الذكور وقادة الحكومة رمزا للوحدة “البروليتارية “، ونظيرا شرقيا لبذلات رجال الأعمال الغربية.
ورغم ارتباط البذلة وشيوعها باسم ماو تسي تونغ، فإن مواقع التأريخ الصينية تسمي تلك البذلة باسم “بذلة تشونغشان”، وترجعها الى الثوري القومي الصيني صن يات صن (1866-1925) الذي شكل حكومة مؤقتة في الصين عام 1912 بعد الإطاحة بأسرة تشينغ التي حكمت الصين من عام 1644 حتى عام 1911، ومن ثم يعدّه كثيرون مؤسس الصين الحديثة.
أراد صن استحداث لباس قومي يكون بديلا لكلٍّ من لباس العمل الغربي ورداء “مانشو” المزين بزخارف باذخة، الذي كان يرتديه الإمبراطور بوي آخر إمبراطور للصين، وعلى النقيض من ذلك، تم تصميم بذلة عملية، وروعي فيها إبراز الصين “الجديدة الواثقة”. ومزجت بين العناصر الغربية والشرقية، وأضافت جرعة قوية من النزعة العسكرية حيث كان معظمها بالألوان الأزرق أو أخضر أو الرمادي، وفي الغرب كان يُشار إليها على أنها “بدلة ماو” .
أزرار وأسرار
يتحدث مؤرخون صينيون عن المعاني الرمزية في “بدلة ماو”، ويقولون إن الجيوب الأربعة على السترة تدل على المبادئ الأساسية الأربعة، وهي اللياقة والعدالة والصدق والشعور بالعار. ويذكرون أن هذه المبادئ واردة في “كتاب التغييرات” الكلاسيكي الصيني؛ الذي يعد أحد أهم 5 كتب في التراث الفلسفي الصيني، وكان الصينيون يعتمدونه في الأزمنة الغابرة في قراءة الطالع.
أما الأزرار الخمسة، فتشير إلى الفروع الخمسة للحكومة في دستور جمهورية الصين، وهي السلطات التنفيذية، والتشريعية والقضائية والرقابة والفحص. وتمثل الأزرار الثلاثة على الأكمام 3 مبادئ لصن يات صن للشعب، وهي القومية وحقوق الشعب ومعيشة الناس.
وكان موظفو الخدمة المدنية في الصين يرتدون نسخة معدلة من قبل الجيش حتى الحرب الصينية اليابانية، وارتدوا “بدلة ماو” بعد تأسيس جمهورية الصين الشعبية عام 1949، وأصبحت مرتبطة ارتباطا وثيقا به وبالشيوعية الصينية.
وبحلول الوقت الذي انبثقت فيه الثورة الثقافية “الكارثية” عام 1966، كانت “بدلة ماو” -بمفاهيمها الراسخة عن القومية- واحدة من الأشكال الوحيدة المقبولة للزي في الصين. وهذه حقبة كان من الممكن أن يؤدي فيها ارتداء الزي “البرجوازي” إلى التعرض للهجوم في الشارع أو ما هو أسوأ. وتم حظر العناصر التي تعد “منحطة”، مثل المجوهرات والمكياج والأحذية ذات الكعب العالي.
بعد وفاة ماو عام 1976، بدأ تأثير البذلة يتضاءل، وأعاد الانفتاح والإصلاح في الصين إدخال الخيارات في الحياة اليومية، من العمل إلى الملابس. لكن البذلة احتفظت بقبضتها القوية على الخيال الصيني.
ظلت “بدلة ماو” الزي الرسمي القياسي للأجيال الأولى والثانية من قادة جمهورية الصين الشعبية؛ مثل دنغ شياو بينغ الذي كان أحد ضحايا ماو في الثورة الثقافية، وخلفه في زعامة الحزب الشيوعي الصيني، وقيادة الدولة (بين عامي 1978 و1992؛ فباشر تغيير نهج ماو بالكامل في بناء الصين الجديدة.
رفض دنغ أن يبقى -بعد تقدمه في السن- في موقع المسؤولية، وترك للأجيال الجديدة أن تتابع “الطريق الواقعي” المرتبط بالعصر لبناء الصين، من دون “قفزة كبرى” أو “ثورة ثقافية ” كثورة ماو ـ التي انتهت عام 1976، أو أي مغامرة تحمل طابع التسريع القسري في تحقيق التقدم. رأى دينغ أن للتقدم شروطا موضوعية وواقعية وزمنا ضروريا لا بد من اجتيازه.
كان أعضاء الحزب الشيوعي الصيني يرتدون الزي الأخضر الفضفاض أو “بدلة ماو” الرسمية، وخلال التسعينيات بدأ قادة جيل الأمين العام للحزب الشيوعي والرئيس الصيني الأسبق جيانغ زيمين (1926-2022) إلى جانب المزيد من السياسيين الصينيين؛ ارتداء بذلات على الطراز الأوروبي التقليدي مع ربطات العنق.
ومنذ ذلك الوقت وحتى الآن تزايدت أعداد من يرتدون بذلات غربية التصميم محلية الصنع تضاهي أحدث ما تنتجه بيوت الأزياء الغربية، بعد أن أفرز هذا التحول مصممين صينيين وعلامات صينية لا تقل جودة عن المنتجات الصينية في إطار تحول الصين من التقليد الى التصنيع والابتكار حتى في مجال الأزياء.
فستان سهرة
أما الرئيس السابق هو جينتاو -الذي خلف زيمين وتولى رئاسة الصين من عام 2002 وحتى عام 2012- فكان يرتدي “بدلة ماو”، فقط في المناسبات الخاصة، مثل الاحتفال بالذكرى الستين لتأسيس جمهورية الصين الشعبية عام 2009. وظهر جينتاو مرتديا بذلة غربية وربطة عنق سوداء في عشاء رسمي في الولايات المتحدة، مما أثار بعض الانتقادات.
أصبح ارتداء البذلة غربية التصميم القاعدة، والاستثناء هو ارتداء “بدلة ماو”، خاصة في فترة الرئيس الحالي شي جين بينغ، الذي يقود الصين في حلة جديدة، حيث عادت “بدلة ماو” زيا دبلوماسيا غالبا في المناسبات الخاصة فقط، مثل حفلات العشاء الرسمية. وفي هذه الحالة، تعمل “بدلة ماو” كشكل من أشكال “فساتين السهرة”، أي ما يعادل الزي العسكري للملك، أو البدلة الرسمية للزعيم البارز.
كما يلاحظ أن السفراء الصينيين يرتدون عادة بدلات تجارية أوروبية، ويختار العديد منهم ارتداء بدلة ماو عندما يقدمون أوراق اعتمادهم إلى رئيس الدولة. بوصف حفل التقديم رمزا للاعتراف الدبلوماسي القائم بين البلدين، لذلك فهو يحمل مستوى أعلى من الشكليات عن الاجتماعات الدبلوماسية الأخرى.
رحل ماو تسي تونغ، ورحلت معه منظومته الفكرية، التي اتخذت اسم الماوية وصفتها، مثل كثير من أنحاء البلاد، ولدى أولئك الذين ما زالوا يربطون الصين “ببدلات ماو”. أما بالنسبة للجيل الجديد الخارج من سبات اشتراكي طويل فقد دفن حقبة ماو تحت سيل من الإصلاحات الرأسمالية.
وفي عهد الرئيس الحالي شي جين بينغ أصبحت أناقة ملابس المرء وطراز السيارة، والمكان الذي يعمل فيه، والمبنى الذي يسكنه، وعدد المرات التي يسافر فيها إلى الخارج؛ أحد معايير الانفتاح على الطريقة الصينية في المرحلة الجديدة.
أما زوجته بينغ لي وان التي أصبحت سيدة الصين الأولى بعد أن كانت مغنية استعراضية وتحمل رتبة لواء فخرية؛ فهي مفتونة بالموضة حسب وسائل الإعلام الغربية التي تلقبها بـ”كيت ميدلتون الصينية”؛ تشبيها بأميرة ويلز التي تعد أكثر أفراد العائلة الملكية البريطانية أناقة وشهرة.