واشنطن- تبدأ كل حرب تقريبا بسبب واضح ظاهريا، وبتقييمات متفائلة حول نتائجها ومدتها وتكاليفها. هكذا كانت الحال مع حرب العراق عام 2003، التي شنتها الولايات المتحدة تحت ادعاءات وجود أسلحة دمار شامل يتم إنتاجها وتخزينها من قبل بغداد، وثبت لاحقا كذب هذه المزاعم.
كانت إدارة جورج بوش مقتنعة، وطمأنت الشعب الأميركي والعالم، بأن الحرب ستخلف عددا قليلا من الضحايا المدنيين والعسكريين، وستؤدي إلى “نصر” سريع تليه إعادة الإعمار، وتحويل العراق إلى حكومة ديمقراطية، وتركه ببنية تحتية أفضل. لكن، حسب ما وثق “مشروع تكاليف الحرب” (Cost of War) بجامعة براون (Brown University) الأميركية، فإن هذه الافتراضات المتفائلة تواجه سجلا من الوفيات، والتكاليف المرتفعة والمستمرة، والدمار الإقليمي.
ويصدر “مشروع تكاليف الحرب” في جامعة براون تحديثا دوريا لدراسة عن تكلفة الحرب في العراق، ويظهر التحديث الأخير أن الحرب كلفت الخزانة الأميركية حتى الآن ما لا يقل عن 2.89 تريليون دولار، أي ما يقرب من 26 ألف دولار لكل دافع ضرائب فدرالي، هذا بالإضافة لضحايا وقتلى تخطى عددهم ربع مليون شخص أغلبهم من المدنيين العراقيين.
التكلفة المالية
تتكون ميزانية حروب الولايات المتحدة من تكاليف مباشرة للإنفاق العسكري على العمليات من قبل وزارة الدفاع، والمهام المساعدة من وزارة الخارجية. وهناك أيضا تكاليف إضافية، بما فيها ميزانية تمويل الرعاية الطبية ورعاية المعوقين من “المحاربين القدامى”.
ويُقدر إجمالي التكاليف حتى الآن بنحو 1.79 تريليون دولار، ولا يشمل الأموال المطلوبة للسنة المالية 2024. وإذا تم تضمين تكاليف الرعاية الطبية ورعاية المعوقين “للمحاربين القدامى” المستقبلية، فستصل هذه التكاليف إلى نحو 2.89 تريليون دولار. ولا يشمل الرقم المذكور هنا الإنفاق الأميركي على تكاليف المساعدات الخارجية وإعادة الإعمار.
ويصل تقدير تكلفة غزو العراق أميركيا، حسب تصنيفات جامعة براون، إلى 2.9 تريليون دولار تقسم على النحو التالي:
صعوبة تقدير التأثير الاقتصادي
تشير البيانات الحكومية عشية غزو العراق قبل 20 عاما إلى بلوغ حجم الدين الأميركي العام نحو 6.4 تريليونات دولار، أو ما نسبته 39% من إجمالي الناتج القومي الأميركي. وبعد 20 عاما من الغزو، بلغ حجم الدين العام الأميركي نحو 23 تريليون دولار، أو ما نسبته 123% من إجمالي الناتج القومي لعام 2022.
ونتج عن الإنفاق المرتفع على الحرب في العراق ضياع فرص بديلة للاقتصاد الأميركي، ولم يستفد هذا الاقتصاد في الهياكل الأساسية العامة، مثل الطرق والمدارس ومشروعات البنية التحتية، في مقابل استفادة الصناعات العسكرية.
وجدير بالذكر أن خطط الرئيس جو بايدن -التي تطمح لإنعاش وصيانة وتطوير البنية التحتية الأميركية- وافق عليها الكونغرس، وبلغت قيمتها 1.3 تريليون دولار، أي أقل من نصف تكلفة الحرب في العراق.
وأشار بايدن إلى أن خطة البنية التحتية بتزويد أكثر من 400 ألف مدرسة وحضانة أطفال بمياه شرب صحية خالية من الرصاص، وستوفر أيضا الإنترنت فائق السرعة “للجميع وبأقل تكلفة”، كما أنها ستدعم الاستثمار في السيارات الكهربائية وتغيير طرق التنقل في البلاد، وتقليل معدلات التلوث في الطرق، وتحديث السكك الحديدية وتسريع التنقل بها.
التكلفة البشرية
الحساب الكامل لتكاليف السنوات العشرين الماضية من الحرب في العراق يشمل التكلفة البشرية، حيث قتل وجرح الآلاف من الجنود العراقيين والسوريين والأميركيين والأجانب، إضافة للقتل المباشر للمدنيين والمقاتلين في منطقتي الحرب (العراق وسوريا).
وتضمنت تقديرات مشروع “تكاليف الحرب” أعداد القتلى والضحايا في أثناء محاربة تنظيم الدولة الإسلامية في سوريا، واعتبرهم التقرير نتاجا غير مباشر للغزو الأميركي للعراق.
ووفق جامعة براون في الفترة بين مارس/آذار 2003 ومارس/آذار 2023، فإن عدد قتلى الجيش الأميركي بلغ 4599 شخصا، أما قتلى موظفي البنتاغون المدنيين فبلغ 15 شخصا، وعدد القتلى من المتعاقدين الأميركيين فوصل إلى 3669 شخصا.
وقدرت الجامعة عدد قتلى الضحايا المدنيين في كل من سوريا والعراق بنحو 349 ألف شخص خلال الفترة المحددة. وأن عدد القتلى في صفوف الصحفيين في البلدين 357 شخصا.
حصيلة أكبر
ولكن هناك حصيلة لما يُعرف باسم “الموت غير المباشر” بسبب النزوح، وضعف الوصول إلى مياه الشرب الآمنة، ونقص الرعاية الصحية، والأمراض التي يمكن الوقاية منها، رغم تحسن بعض مؤشرات الصحة في العراق، بما في ذلك وفيات الأطفال والرضع.
لكن حتى اليوم، أكثر من 7 ملايين شخص من العراق وسوريا لا يزالون لاجئين، ونحو 8 ملايين شخص نازحون داخليا في البلدين. ولم يفصّل التقرير خلفيات هذا اللجوء والنزوح أو يربط بعضه على الأقل بالأزمة في سوريا بعيدا عن محاربة تنظيم الدولة.
وفي الواقع، لا يمكن حتى الآن حساب التكاليف الإجمالية النهائية للحرب الأميركية في العراق وسوريا، مع تواصل القوات الأميركية ضرب تنظيم الدولة من الجو والأرض. فعام 2022، نفذت القوات الأميركية 313 مهمة ضد التنظيم، 122 في سوريا و191 في العراق.
تكلفة أخرى بيئية
كما أن الدمار الذي لحق بالبنية التحتية المحلية والعواقب البيئية، بما فيها انبعاثات غازات الدفيئة (التي تسبب ظاهرة الاحتباس الحراري) المرتبطة بالحرب، سيستمر لفترة طويلة.
ويُشير تقدير جامعة براون إلى تكلفة بيئية عالية يتحملها العراق ممثلة في انبعاث 98 إلى 122 مليون طن متري من مكافئ ثاني أكسيد الكربون (MMTCO2e) من العمليات العسكرية الأميركية بين عامي 2003 و2021 في منطقة الحرب.
الحرب مستمرة
وعدَت ادعاءات الحرب بتخليص العراق من “الإرهاب” وجعل من الصعب إيجاد موطئ قدم له هناك. وكما جادل البعض، فإن نمو تنظيم الدولة، على الأقل جزئيا، قد يُعزى إلى الدمار الذي أحدثته حرب العراق.
وقال الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما -خلال مقابلة عام 2015- إن “داعش ثمرة مباشرة لتنظيم القاعدة في العراق، والتي جاءت من غزونا، وهو مثال على العواقب غير المقصودة، ولهذا السبب يجب أن نصوب بشكل عام قبل أن نطلق النار”.
وبعد 20 عاما من غزو العراق، يستمر القتال، وإن كان بوتيرة أبطأ، حيث طلبت إدارة بايدن ما يقرب من 400 مليون دولار لتمويل مكافحة تنظيم الدولة للسنة المالية 2024.