بيروت – يركن إبراهيم الحسن دراجته عند أحد مداخل مخيم برج البراجنة للاجئين الفلسطينيين في العاصمة اللبنانية بيروت، ويرافقنا سيرا على الأقدام، كأسهل وسيلة للتوغل في الأزقة. وإبراهيم هو دليلنا الفلسطيني إلى مساكن جيرانه بأبنية فاقدة لمقومات العمران الصلبة.
نرفع رؤوسنا، فيتوه النظر يمنة ويسرة، عاجزا عن تحديد نقاط التصدع الكثيرة بالجدران والأعمدة المسنودة على دعامات خشبية أضعف منها، وتتوارى تصدعات أخرى بين شقوق الشرائط وأسلاك الكهرباء، التي تتدلى منها صور لشهداء فلسطينيين، وتخترقها أعلام فلسطينية.
تقاطعنا سيدة خمسينية تدعى رمال وبيدها كيس أسود تظهر منه حبات البطاطا من أجل طبختها الخالية من اللحوم: “نريد عملا ومالا وطبابة قبل ترميم المنازل التي تحدقون فيها”. إنها عينة من نحو 90% من أسر فلسطينية تعيش فقرا مدقعا وتجد ترميم منازلها ترفا صعب المنال.
ندخل بيتها الصغير والرطب، حيث انهارت أجزاء من شرفته، وتغزو سقف غرفة النوم تشققات خطيرة، فتشير إلى زاوية تصفها بالآمنة، تثبت بها سريرا للنوم مع طفليها. تفتح الثلاجة العتيقة قائلة -كأنها تقطع أي أسئلة عن أحوال منزلهم المتصدع- “ما دام أنها فارغة، وزوجي يعمل يوما ويعطل 10، لا نفكر سوى في إطعام أطفالنا”.
نغادر منزلها، وكلما تقدمنا خطوة يدعونا إبراهيم (39 عاما) للتدقيق في بهو كل بناء وأعمدته، حيث الإسمنت المنسلخ عن الحديد، ويبتسم ساخرا “لم تروا شيئا، المشهد من فوق مختلف”.
يأخذنا هذا الناشط في مخيمه لجارته الفلسطينية أم يوسف، في الطابق 11 داخل أعلى مباني المخيم، الذي تسكنه نحو 22 أسرة، في مغامرة جريئة مع ضخامته وهشاشة بنيانه؛ فأدراجه من الخفان (نوع من الحجارة) المتعرج، والتشققات تنهش أعمدته رغم عدم تجاوزه 15 عاما، والباطون منتفخ من تسرب المياه المالحة، فتسبب في كسور البلاط.
ومن شرفة منزلها، تظهر أبنية برج البراجنة كفسيفساء رمادية متكدسة من لون الأحجار وخزانات المياه، ويكسر رتابتها القاتلة تطاير الغسيل الملون من حبال شرفات تقاوم السقوط، ومن “القمة” تتدرج التناقضات ديموغرافيا وعمرانيا.
ويطل المنزل على بيروت ومطارها الذي يبعد نحو كيلومترين عن المخيم، فيحاكي بؤس العمران أحوال سكانه، وكأنه مجبول ببقايا حروب السبعينيات والثمانينيات الأهلية وحرب يوليو/تموز 2006.
تحدثنا أم يوسف عن رعبهم من الهزات عقب الزلزال الذي ضرب جنوبي تركيا وشمالي سوريا، قائلة “مال المبنى بكل الاتجاهات، وسقطت أحجار من السقوف. طمأننا صاحبه لعدم وجود مخاطر تهدد سلامتنا؛ لم نصدقه. أفكر في ترك منزلي لكننا لم نجد منازل فارغة في المخيم وبإيجار رخيص”.
هنا، يخبرنا إبراهيم أنه عند زواجه عام 2014 استعان بمتعهد لبناني لتشييد منزله على سطح مبنى تسكنه عائلته، فظهرت التشققات بعد 3 سنوات. يقول “جميعنا نستعين بمتعهدين وليسوا مهندسين، وأحيانا نغش أنفسنا بجودة المواد لتناسب قدراتنا المادية الشحيحة”.
تاريخ العمران
اختناق المخيم بسكانه يحيلنا لحقيقة أن المساحة الإجمالية للمخيمات الفلسطينية بلبنان -وفق أرقام وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)- تبلغ نحو 3 كيلومترا مربعا.
وتنقسم على 12 مخيما: شمالا البداوي ونهر البارد، وشرقا الجليل، وفي بيروت مخيمات الضبية ومار إلياس وبرج البراجنة وصبرا وشاتيلا، وعين الحلوة والمية ومية في صيدا، ومخيمات الرشيدية والبص والبرج الشمالي في صور.
بينما تقدر أعداد الفلسطينيين -وفق آخر إحصاء رسمي للسلطتين اللبنانية والفلسطينية في عام 2017- بنحو 174 ألف لاجئ. أما المسجلون على لوائح الأونروا فيبلغ عددهم نحو 475 ألف لاجئ، والفارق بين الرقمين نتيجة عدم شطب الأونروا آلاف اللاجئين الذين غادروا لبنان في العقود الماضية من لوائحها.
تاريخيا، المخيمات خارج التصنيفات الهندسية؛ إنها بيوت كالخيم وأصلها كذلك، منذ بنيت على أراض استأجرتها الأونروا لمدة 99 عاما، عقب النكبة الفلسطينية في 1948، التي شهدت الموجة الأولى للجوء الفلسطيني. وكانت الأونروا توزع الشوادر على الأسر اللاجئة، وتوفر حمامات ومراكز مياه مشتركة.
وفي عام 1950، أجلَت السلطات اللبنانية الفلسطينيين من القرى الجنوبية نحو المخيمات، فثبتوا شوادرهم بجدران من الطين؛ ثم دفع اهتراؤها -بفعل العوامل الطبيعية- السلطات للسماح بإنشاء منازل أرضية صغيرة داخل المخيمات مسقوفة بالصفيح الزينكو.
وخلال سنوات الحرب الأهلية اللبنانية، شهدت المخيمات أوسع عملية إعمار للأبنية الهشة، فتحولت إلى ما يشبه المدن الصغيرة المكتظة.
ومع انسداد خيارات الفلسطينيين بعد الحرب، تنامت ظاهرة إدخال مواد البناء خلسة للمخيمات، لأن إدخالها الشرعي أصبح يحتاج لأذونات من الجيش.
ويرجع مراقبون واقع المخيمات إلى سياسات الإهمال العمراني، ولإقصاء الفلسطينيين اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا ومكانيا، وعدم السماح لهم بالتملك، وعجزهم عن تسديد الإيجارات خارج المخيمات.
بين البرج وشاتيلا
أصبح مخيم “برج البراجنة” بعد تأسيسه عام 1948 من أكثر المخيمات اكتظاظا، ويسكنه نحو 20 ألف نسمة ببقعة تقدر بنحو 0.2 كيلومتر مربع، وشهد منعطفين من التضخم السكاني:
- نزوح أهالي مخيم تل الزعتر إليه في الحرب الأهلية عام 1975، وآخرين من مخيمات الجنوب عقب الهجوم الإسرائيلي في 1978.
- مع اندلاع الحرب السورية في 2011، تدفقت إليه أفواج فلسطينية نازحة من مخيم اليرموك، وآلاف الأسر السورية التي استقرت في مخيمات الفلسطينيين.
وكحال “برج البراجنة”، يبدو مخيم “شاتيلا” (شرق المدينة الرياضية ببيروت) بلا ساحات، يحفظ ذاكرة حرب عرف فيها أهله أفظع مجزرة بحق الفلسطينيين على يد إسرائيل ومليشيات لبنانية عام 1982.
ومن سوق “صبرا” حيث يتنافس أصحاب عربات الخضار بنداء العابرين لشراء بضاعتهم، تضيق المساحات بأزقة مستطيلة شكلت أبنيتها سدا سميكا أعاق تسلل الشمس.
هنا، طبع النور الخافت الشحوب في قسمات الوجوه نساء ورجالا، أما الرائحة فخليط من بقايا النفايات والمياه الآسنة، ثم تبدو مزيجا استثنائيا مع سحابات دخان تتسرب من أفواه وأنوف مراهقين يقتلون ضجرهم بتدخين النرجيلة، على جدار ملاصق لمحل ينزع صاحبه الريش عن جلود الدواجن وينظفها لزبائنه بأسعار تشجيعية.
وعلى بعد أمتار، يلعب أطفال كرة القدم، فيهرعون فجأة لجدار مهترئ مطبوع بشعار “سنعود يوما”، ويقفون على رؤوس أصابعهم، إفساحا لعبور دراجة نارية.
يخبرنا رجالات المخيم بأن أعمار البيوت بالمبنى الواحد ليست سواسية؛ فكلما ارتفعنا طابقا، يكون البيت أقل سنا. فمن أراد تزويج ابنه مثلا، يعمّر منزله على سطح المبنى، وهكذا دواليك.
يأخذنا السوري محمد ربلاوي -اللاجئ من حمص- لمنزله المتهالك بشاتيلا، غاضبا ويائسا من ركام سقف سقط قبل أسابيع، بينما صاحبه يرفض تكبد تكاليف الترميم، يقول “نفترش الأرض للنوم مع أولادي بمنزل أقاربنا، رغم أن التشققات تملأ منزلهم، لكن سقوفهم ثابتة أقله”.
لا تتجاوز مساحة مخيم شاتيلا كيلومترا مربعا واحدا، ويسكنه نحو 25 ألف نسمة، نصفهم سوريون، يعيشون في نحو 620 مبنى، أي تقدر مساحة الفرد بـ4 أمتار، وفق حديث أمين عام اللجنة الشعبية بمخيم شاتيلا المهندس ناجي دوالي.
ويقول دوالي للجزيرة نت إن شراء المنازل بهذه الأبنية يتم عبر اللجنة الشعبية، إذ يملأ لديها البائع والشاري استمارة يبصمون عليها، فتنجز العملية.
ويتحدث عن 200 مبنى بشاتيلا مهددة بالسقوط، محملا الأونروا مسؤولية عدم إعلان حالة طوارئ لإنقاذ الفلسطينيين.
لبنان والأونروا
لبنانيا، يقول رئيس لجنة الحوار اللبناني الفلسطيني باسل الحسن للجزيرة نت إن الإعمار في المخيمات يحتاج لترخيص بإذن مباشر من الجيش اللبناني، وكان لعقود يوفر بين 60 و150 ترخيصا كحد أقصى كل 6 أشهر.
وينبع التشدد -حسب الحسن- من مخاوف غياب رقابة الدولة على مواد البناء، أو للتجارة غير الشرعية بها، ونتيجة خلاف تاريخي على مسألة حق الفلسطينيين في البناء خوفا من التوسع الجغرافي للمخيمات، فجاء بنتائج معاكسة، ضاعفت مخاطر السكن لآلاف الأسر، الذين بنوا منازلهم بمواد فاسدة، واستغلهم مقاولون وتجار.
ومنذ نحو 8 أشهر، واستنادا إلى إستراتيجية تأهيل المخيمات لدى اللجنة، سمح الجيش بمنح نحو 200 ترخيص شهريا لترميم أبنية المخيمات، والأمور متجهة للتحسن، وفق الحسن.
وفي ردّ إلكتروني على أسئلة الجزيرة نت، تفيد الأونروا بأن نحو 6 آلاف مأوى تحتاج للتأهيل في المخيمات، وتتراوح بين انهيارات هيكلية وخطيرة.
وفي السنوات العشر الماضية، أهلت الأونروا نحو 5491 مسكنا، “إذ يتم تمويل وإصلاح المساكن عبر مشاريع وليس في إطار ميزانية الوكالة”.
وتفيد بأنها لا تملك مسحا رسميا لعدد المباني في المخيمات، “لأنها بُنيت من قبل اللاجئين، باستخدام مواد بناء منخفضة الجودة، تحديدا بعد الحرب الأهلية اللبنانية”.
وتقول الأونروا إن أحوال مساكن المخيمات تدهورت مع تفاقم الأزمة الاقتصادية والمالية بلبنان، فأصبح اللاجئون الفلسطينيون يطالبون الوكالة بتأهيل مساكنهم أو إعادة بناء الأسقف التي تحتاج للتنسيق مع السلطات اللبنانية لإدخال مواد البناء.
ونظرا لعدم تغير مساحة المخيمات منذ إنشائها، كان الخيار الوحيد البناء عموديا لاستيعاب العائلات الممتدة من 4 أجيال.
لذا، تضيف الأونروا أن المساحة المحدودة مع الطرق والأزقة الضيقة أدت إلى إنشاء مبان شاهقة مع بنية تحتية سيئة من شبكات الصرف الصحي وإمدادات المياه والكهرباء، فتحولت المخيمات لبيئة حضرية كثيفة في ظل ظروف صحية سيئة.
وتنفي الأونروا مسؤولياتها عن عمليات الإعمار، وبالنسبة للملاجئ التي تؤهلها فإن “الوكالة تقوم بإعداد التصميم والإشراف على أعمال البناء بتمويل المانحين”.
وبعد زلزال تركيا وسوريا، تلقت الأونروا شكاوى من عائلات حول تصدعات إضافية في مبانيها، فأجرت تقييما سريعا للأضرار، وستتم معالجتها موضعيا. وقالت “تتعامل الأونروا مع إعادة تأهيل المساكن بطريقة فردية ووفقا لمعايير إعادة تأهيل المساكن التي تستهدف العائلات الفقيرة الفردية والملاجئ غير الآمنة”.