الراعي غنوك: “الجفاف سلبني بقراتي الـ50 وجمالي العشرة و100 من الماعز.. وذاك هو كل ثروتي”.
بفعل 5 سنوات متتالية من الجفاف لم يُسمع بمثلها في التاريخ الإثيوبي، دمرت الظروف القاسية نمط الحياة والمناظر الطبيعية في منطقة بورينا بجنوب البلاد، وأجبرت السكان على مغادرة قراهم لطلب المساعدة الإنسانية، في مثال حي على مدى خطورة الوضع في الوقت الذي تفتتح فيه الأمم المتحدة مؤتمرا عالميا يتحدث عن أزمة مياه “وشيكة”.
بهذه المقدمة لخصت صحيفة “ليبيراسيون” (Liberation) الفرنسية ما تعانيه منطقة بورينا الإثيوبية القاحلة بعد 5 سنوات من توقف الأمطار، منطلقة من قصة الراعي غنوك جيرما الذي ما زال يحمل عصاه التي لم يعد لديه ما يهشّ بها عليه بعد أن أخذ منه الجفاف كل شيء، بقراته الـ50 وجماله العشرة و100 من الماعز كانت كل ثروته.
ويتحسر هذا الراعي -في تقرير بقلم مبعوث الصحيفة الخاص إلى إثيوبيا سيليان ماسي- على أنه لم يبع جزءا من مواشيه ليدخر ثمنه قائلا، “نحن لا نفعل ذلك. يقولون إن الادخار الحقيقي هو القطيع”، ولكن نحو 90% من بقر بورينا التي يزيد عدد الأبقار فيها 5 مرات على عدد السكان قد هلك، و”بعد المواشي، بدأ الجوع يهاجم البشر في منطقة يعيش 85% من سكانها على الرعي والباقون على هامش هذا النشاط.
ومثل 400 ألف من سكان منطقة بورينا المتاخمة لكينيا، يعيش غنوك الآن في مخيم دبلوك للنازحين حيث يتلقى شهريا 25 كيلوغراما من دقيق الذرة من الحكومة الإثيوبية لإطعام أفراد عائلته الثمانية، ويستفيد من تضامن جيرانه القوي، رافضا بسبب وضعه الاجتماعي السابق أن يمارس هو وأبناؤه النشاط الوحيد المتاح لرعاة بلا ماشية، وهو قطع الأشجار لبيع الحطب أو الفحم.
الجراد وكوفيد والحرب الأهلية
وليست منطقة بورينا إلا مثالا للقرن الأفريقي الذي يعاني 36 مليون شخص من سكانه، ثلثاهم في إثيوبيا، من جفاف لا نهاية له، حيث “تتراكم الأزمات، إذ تضافر فيها غزو الجراد ثم جائحة كوفيد ثم الحرب الأهلية في إثيوبيا، مع الغياب التام للأمطار لفترة غير مسبوقة من الزمن”، كما يقول غاشهون أندلا هيلامريام رئيس منظمة “بلان إنترناسيونال” (Plan International) غير الحكومية.
ومن ناحيته، أشار تقرير صادر عن مركز عمليات الطوارئ الذي أنشأته السلطات الإثيوبية بالتعاون مع الأمم المتحدة إلى أن “الجفاف الحالي يتسبب في كارثة إنسانية تتطلب اتخاذ إجراءات سريعة لإنقاذ الأرواح”.
ويستضيف المركز مؤتمرا لمحاولة تلبية احتياجات مليارات الأشخاص المعرضين للخطر في مواجهة أزمة مياه عالمية “وشيكة”، ويحذر ممن سماهم “مصاصي الدماء” البشرية الذين يستنزفون موارد المياه في الكوكب “قطرة بعد قطرة”.
ورغم هذه الظروف -كما يقول المراسل- تحظر الحكومة الإثيوبية على العاملين في المجال الإنساني ووكالات الأمم المتحدة استخدام كلمة “مجاعة” التي أصبحت من المحرمات التاريخية لما تحيل إليه من فترة مظلمة في ثمانينيات القرن الماضي، إذ غدت إثيوبيا تجسيدا للمجاعة وترى اليوم أن ذلك لا يليق بصورتها كبطل أفريقي للتنمية.
وينبه المراسل إلى المفارقة والتناقض الكبير، إذ استقبلهم رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد قائلا “لقد تحقق طموحنا في بدء تصدير القمح بالفعل هذا العام. إنه إنجاز عظيم لإثيوبيا وإنجاز أكبر لقارتنا”، ولكن 800 ألف شخص في منطقة بورينا بجنوب البلاد بحاجة عاجلة إلى مساعدات غذائية للبقاء على قيد الحياة، وأكثر من 250 ألفا منهم لم يحصلوا عليها حتى الآن.
صدمة اجتماعية وثقافية
ويتابع المراسل تصوير حياة السكان في المخيم، حيث تغادر زوجة الراعي عائدة إلى قريتها، لتنفض أشجار السنط فتسقط ثمارها وبعض الأوراق لإطعام ماعزها التي هي كل ما بقي للأسرة، وتقول “نحن نعرف المواشي فقط. أراد أسلافنا العيش هناك بسبب وجود الموارد، ومن دون موارد ليس لدينا ما نفعله هنا. لإعادة بناء قطيع مثل الذي كان لدينا، سيستغرق الأمر 20 عاما على الأقل”.
وإذا كان هذا الجفاف المتكرر الذي لم يسبق له مثيل في حجمه -كما يقول المراسل- قد سبّب صدمة اجتماعية وثقافية عنيفة بين سكان بورينا الذين يرون وسائلهم التقليدية لكسب العيش تنهار، فإن العروسين غودورو وناغلي أدركا قبل غيرهما حقيقة ما يحدث وكانا أول من رحل من قريتهما إلى مخيم دوبلوك، رغم معارضة والديهم لذلك لاعتبارهم أن التخلي عن الماشية وصمة عار.
يقول غودورو إن جيله فهم الأمر وأدرك أن عليهم التكيف وتغيير نشاطهم، وقد وضع أفكاره موضع التنفيذ، فاشترى عربة بحمارها في مخيم النازحين وأصبح يقوم ببيع المياه، يؤجّر عربته عندما يذهب إلى المدرسة التي عاد إليها، ومع ذلك ما زالت إحدى العجائز تعتقد أن “كل هذا مؤقت.. سنعود إلى حياتنا القديمة”، حسب أمنيتها.