لم تكن غزوة بدر الكبرى مجرد قتال بين سيوف عربية طالما ألفت القراع والطعان منذ قرون، بل كانت منعطفا في مسار الأيام، ومنطلق تاريخ جديد، وانحسار أمة وفكر وثقافة وتاريخ آخر، كانت الفرقان بين الحق والباطل، حيث جدعت فيها السيوف النبوية أنوفا طالما صَعَّرها الكبرياء والغرور في مواجهة الرسالة المحمدية.
لكن “يوم الفرقان” هذا كان أيضا منهجا متعدد الملامح في إستراتيجيات إدارة الصراع، وقيادة الحروب واستثمار نتائجها، ومظهرا بالغ الوضوح للعبقرية النبوية في الجمع بين الوحي والتدبير، وبين العمل والتوكل، وبين التخطيط واستدرار المغيب من نصر وتمكين.
بدر الكبرى.. سيوف الحق في نحور الجاهلية
منذ أن صدر الإذن بالقتال وصدح القرآن في أفئدة وآذان المسلمين أن “أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39- سورة الحج) بدأ مسار جديد في بناء الدولة الإسلامية، انتقالا من “كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة” إلى مناط جديد من “جاهدوا في الله حق جهاده” لتكون بذلك المواجهة العسكرية مسألة وقت، وتدبير أيام قليلة.
وقبل الوصول إلى المواجهة الحاسمة، بدأ النبي صلى الله عليه وسلم سلسلة من العمليات العسكرية، حققت أهدافا متنوعة منها:
– الإعداد العملي للمواجهة من خلال مفارز متعددة، أنشبت أظافر الانتقام في عدد من الخواصر الهشة لقريش، ورفعت مستوى الجاهزية في صفوف الصحابة رضي الله عنهم، ومن أبرز تلك السرايا:
– سرية سيف البحر: بقيادة حمزة بن عبد المطلب رضي الله، من أجل اعتراض عير لقريش قادمة من الشام.
- سرية رابغ: في شهر شوال بقيادة عبيدة بن الحارث بن المطلب، وشارك فيها سعد بن أبي وقاص كأول من رمى بسهم في سبيل الله.
– سرية نخلة: وكانت في رجب من العام الثاني الهجري، وفيها أول مواجهة وقتال مباشر بين الكفار والمسلمين بقيادة عبد الله بن جحش حيث قتل المسلمون أحد عناصر سرية قريش، وتدخل الرسول صلى الله عليه وسلم بدفع دية هذا الذي قتله المسلمون في الأشهر الحرم، وأطلق سراح الأسيرين.
بدر الكبرى.. الفرقان الدامي بين الحق والباطل
تسارعت الأحداث والوقائع بعد سرية نخلة، وكثف النبي صلى الله عليه وسلم مهمات الاستعلام، حتى علم المسلمون بخبر عير قريش القادمة من الشام والتي يقودها أبو سفيان بن حرب، فقرر رسول الله صلى الله عليه وسلم الخروج إليها. أما أبو سفيان، فحين علم بترصد المسلمين لهم، أخذ يسير على حذر، إلى أن وجد آثارا تدل على مرور الطليعة الاستعلامية للجيش الإسلامي، فنكب عن طريق القوافل إلى طريق سيف البحر، وأرسل رسوله الشهير ضمضم الغفاري الذي دخل مكة في مشهد مثير بعد أن قلب راحلته ومزق ثيابه وصرخ في أهل مكة محذرا ومستنفرا “يا معشر قريش، اللطيمة اللطيمة، أموالكم مع أبي سفيان قد عرض لها محمد في أصحابه لا أرى أن تدركوها، الغوث الغوث”.
وعلى العدوة الأخرى استنفر النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة ولم يعزم عليهم، فلم يكن يتوقع أنه سيلقى قتالا، ولم يتأهب له، لكن الظروف فرضت غير ذلك، وجرت الأيام مسرعة لتقرب مرمى الرماح ومجرى الخيل بين الطرفين.. فكانت بدر.
وسيرت قريش جيشها الذي ناهز ألف مقاتل، وكان الحماس للهدف شديدا للغاية، إنقاذ القافلة، وكسر “استفزازات” المسلمين، وسرعان ما وصل الجيش إلى مشارف أرض الميعاد العسكري، وعلمت قريش مجددا من أبي سفيان أنه نجا بعيره، وبدأت التردد، بين الدعوة إلى الرجوع وبين لهب الحماس الذي أثاره أبو جهل مشككا في شجاعة بعض قادة قريش، قبل أن يقسم بألا يعود حتى يحقق الهالة الإعلامية التي يريد من وراء الانتصار على المسلمين “نقيم في بدر فننحر الجزر، وتغني لنا القينات، ونشرب الخمر، وتسمع بنا العرب، فلا تزال تهابنا أبدا”.
في الصعيد الآخر، اختار النبي صلى الله عليه وسلم بعناية فائقة سهل بدر ليكون مجرى القتال، وفتح باب التشاور مع الصحابة، وخصوصا مع الأنصار الذين سيخوضون أول حرب لهم مع عدو خارجي تحت لواء النبي صلى الله عليه وسلم، وسرعان ما جاء ردهم حاسما “والله لو خضت بنا هذا البحر لخضناه معك وما تَخلَّف مِنّا رجل واحد، وما نَكره أنْ تَلقى بنا عَدوّنا غداً، إنّا لَصُبرٌ عند الحرب، صُدقٌ عند اللِّقاء، لعلَّ الله يُريكَ فينا ما تَقرُّ به عَينُك، فَسِر بنا على بركة الله”.
في صعيد بدر، نزل النبي صلى الله عليه وسلم في طرف الوادي، فأشار عليه الصحابي الحكيم الحباب بن المنذر بأن ينزل في أقصى نقطة من الوادي، وأن يغور الآبار والعيون، سوى ما بيد المسلمين، حتى يفرض الموقع ويهز بالعطش أركان الطرف الآخر، فيكون المسيطر على الأرض ومائها، ونفذ النبي صلى الله عليه وسلم هذا الرأي.
وقائع المعركة
صبيحة يوم بدر السابع عشر من رمضان، بدأت الشرارة عبر دورة استكشاف نفذها عمير بن وهب الجمحي، حيث كبرت في نفسه صورة المسلمين وامتلأ قلبه من الرعب من بريق العزيمة في عيونهم، فعاد إلى قريش مذعورا وهو يردد “النوايا يحملن المنايا”.
وبدأت المناوشات الأولى عندما خرج سيد قريش عتبة بن ربيعة وابنه وأخوه، طالبا المبارزة، فاختار له النبي صلى الله عليه وسلم عمه حمزة بن عبد المطلب وابني أخويه عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب، وعلي بن أبي طالب، وبدأت المواجهة التي انتهت سريعا بمقتل زعماء قريش الثلاثة، وإصابة عبيدة بن الحارث إصابات قاتلة قضى بها بعد عودة المسلمين من بدر.
وهزت هذه المبادءة الدامية أفئدة القرشيين، فبادروا بهجوم كاسح، انكسر هو الآخر سريعا تحت سور النبال الذي نصبه المسلمون حيث كانت الرشقات الدامية تقتنص بشكل هائل مقاتلي قريش وتلقي بالفرسان من على سروجهم إلى مهاوي الردى.
ثم بدأت المرحلة الثالثة والأخيرة من القتال وهي المجالدة بالسيوف وكانت الغلبة فيها للمسلمين، وبدأت الخيل تدوس صناديد قريش وهم صرعى جهالة وضلال، ولم يطل الأمر حتى أسلم الفارون أقدامهم للريح، وبدأت القيود والأغلال تدور في أعناق وأقدام المتساقطين على ثرى بدر، وانفرج “يوم الفرقان” عن 70 قتيلا من قريش، و70 أسيرا وعن 14 شهيدا من المسلمين، وانطلق صدى بدر يغمر آفاق الزمان والقيم، فهد في أيامه الأولى أسطورة قريش التي لا تقهر، وبث الرعب في صفوف كثير من قبائل العرب، ورفع معنويات المسلمين إلى درجات إشراق إيماني غير مسبوق.
أما قريش فقد عادت إلى مكة قريحة دامية، بعد أن فقدت كثيرا من صناديدها، وكتب الموت والزمان أن تظهر قيادة جديدة وأسلوب جديد في التعاطي مع ما بعد بدر، وقرعت أجراس الموت نبضا مشككا في نفوس كثير من وثنيي مكة، وتسربت إلى نفوسهم أسئلة وجودية بموازاة فورة الحنق والغضب، وتعايشت المشاعر المتناقضة في النفوس، هيبة ورهبة من محمد صلى الله عليه وسلم وتفكيرا في صدقية ما يدعو إليه وقيومية نصره الرباني على النفوس، ثم حنقا وغضبا وبكاء مكتوما، لأن قريشا حرمت البكاء على قتلاها استعدادا للانتقام.
إستراتيجية صناعة النصر واستثمار نتائجه
يمكن الجزم بأن غزوة بدر بأسبابها ومسارها ونتائجها تمثل خارطة إستراتيجية لإدارة الصراع وصناعة النصر، ولاستثمار نتائجه، ويمكننا استعراض بعض ملامح الإستراتيجية النبوية في العناصر التالية:
– الإنهاك الاقتصادي للخصم: وذلك عبر الترصد والتصدي المباغت مما ضاعف على قريش المسافة والتكلفة، وأدخلها في أهبة نفسية واضطراب غير مسبوق، وجعلها في ترقب دائم ونقلها من القوة الطاردة إلى العير المطارد.
– الإعداد النفسي والعملي للحرب: لم تكن التدريبات النبوية مجرد إحماء فقط بل كانت أيضا مواجهة فعلية، تجمعت فيها عناصر متعددة، منها التدريب على القتال في بيئات زمانية مختلفة، ومنها الاستعلام والترصد، والتدريب من خلال التجربة والخطأ، ومنها العمليات المباغتة مثلما حدث في سرية نخلة التي لم يكشف النبي صلى الله عليه وسلم عن هدفها بشكل نهائي إلا بعد أيام من سير قائدها.
– المشاورة والتنسيق: مع الجيش الذي أصبح كل عناصره معنيين بشكل مباشر ليس بالضراب والحرب فقط، بل بصناعة المشهد رأيا وتخطيطا ومشاركة.
– تحديث منظومة العلاقات الداخلية: وذلك من خلال تطوير العلاقة مع الأنصار ومشاورتهم بشكل خاص في الحرب خارج أرضهم ومواجهة خصمهم، وقد كانت هذه المشاورة بمثابة ملحق تكميلي للبيعة التي بموجبها دخلوا في دين الله أفواجا وانحاز إليهم الرسول صلى الله عليه وسلم بعد أن ضاقت عليه مكة بما رحبت.
– فرض الزمان والمكان: كان اختيار النبي صلى الله عليه وسلم للمكان حاسما، ولم يكن فرض المكان اعتباطيا بل كان فرضا لكل تفاصيله، تغويرا للآبار وصناعة لمركز القيادة (عريش النبي صلى الله عليه وسلم).
– البداية المحفزة: كان اختيار النبي صلى الله عليه وسلم 3 من أعظم أفراد أسرته رسالة تحفيزية نحو الجيش النبوي، بأن قيادتهم تتقدم المخاطر، وكان النصر الذي عاد به المبارزون الصحابة بالغ الأهمية، حيث كبر له المسلمون حتى كادت الأرض أن تميد، وهز بذلك أفئدة القريشيين وأرسل فيها لهب الهزيمة النفسية.
– الصمود الدامي: كانت الهجمة القرشية بعد مقتل قادتها الثلاثة قوية جدا، لكنها انكسرت بسبب شدة الرشق الذي واجههم بها الرماة المسلمون، والذي اصطفوا كالسور وأطلقوا رشاش النبل الدامي، فانكسرت الهجمة الأولى وداست الخيل أجساد الصرعى، وهو ما ضاعف الهزيمة النفسية وزاد من الحماس الإيماني.
– التثبيت والمشاركة الميدانية: لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم قائدا يتابع الحرب عبر أبراج المراقبة ولا عبر الرسائل القادمة من الميدان بل كان في الميدان قائدا وموجها ومربيا، بل كان الصحابة يحتمون به في أحيان كثيرة إذا حمي الوطيس، كما يقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
– التوكل والركون إلى الدعاء: بالتوازي مع البذل الميداني والعامل المادي تدريبا وتخطيطا واستبسالا في القتال، مال النبي صلى الله عليه وسلم إلى ركن مكين من الابتهال والدعاء حتى سقط رداؤه عن منكبه من شدة الاستغراق في ربانية الابتهال، حتى قال له رفيقه الصديق “لقد ألححت على ربك” وفي الدعاء أيضا ركن آخر من أركان إستراتيجية النصر، وهي بذل أقصى ما يمكن من جهد، ثم استدرار العون والنصر من الملك الجبار.
وقد كان التدخل الرباني حاسما ومؤثرا عبر الملائكة الذي ثبتوا المسلمين أو شاركوا في القتال على خلاف في ذلك بين مؤرخي السيرة النبوية حيث مال بعضهم إلى أن حضور الملائكة كان ماديا، كما رويت في ذلك أحاديث متعددة، إلا أن تأثيرهم كان معنويا ثباتا في النفوس، وظلا من الإشراق الإيماني على القلوب، ورهبة وزلزال رعب في نفوس المشاركين حتى قال بعض العلماء:
وقيل لم تقاتل الملائكة.. إذ ريشة منهم لقوم مهلكة
– حماية النصر وعدم تشتيت الجهود: لم يكلف النبي صلى الله عليه وسلم نفسه وجنده مهمة تتبع الفارين ومطاردة المهزومين، وذلك عنصر أساسي في صناعة النصر وحمايته، بل انحاز قافلا إلى المدينة يحمل معه بشائر الظفر، وأغاريد الجنان رنينا مستمرا في مسامع التاريخ، وأهازيج تميد سعف الباسقات من نخيل طيبة الغراء.
– الاستثمار المعرفي للأسرى: استفاد المسلمون من الأسرى واستفاد الأسرى أيضا من المسلمين، فقد ترك النبي صلى الله عليه وسلم عادة قتل الأسير وحولها إلى الفداء، وهي عنصر يبقي على حياة الأسير، ويمكن المسلمين من الحصول على مكسب مادي يعزز مكسبهم المعنوي بالنصر.
وقد كان هذا الفداء على شقين 4 آلاف درهم للموسرين، وتعليم صبيان المسلمين القراءة والكتابة لمن لا يستطيع دفع المال، وهكذا أحس الأسير الفقير لأول مرة أنه لم يعد مجرد عداد لأيام قريبة تطيح فيها السيوف برأسه عن عنقه، بل هو شخص مفعم بالمعرفة ولديه ما يمكن أن يقدمه، وفي ذلك رسالة رمزية بأن المعرفة هي من أسهل وأقوى طرق الحياة، أما المسلمون فقد أدخلوا أبناءهم في دورة معرفية متواصلة.
وقد كانت معاملة الأسرى أيضا رسالة حضارية ذات ظلال متعددة، حيث لم يجد الأسرى العنت والعناء الذي كانوا يلاقونه في مآسرهم السابقة، بل ترك لهم الصحابة الزاد فغرس ذلك في نفوسهم هيبة وإكبارا عظيما، وكانت رؤيتهم للصلاة والمحبة النبوية والعلاقات في المجتمع الإسلامي رسالة أخرى من رسائل الدعوة النبوية إلى القلوب.
وبانتصار المسلمين في بدر، ارتفع مؤشر العزة في نفوس المسلمين، وقطعت بها رواحل الجهاد مرحلة جديدة، وقامت قوتهم على أساس جديد من التضحية والفداء والنصر، وانكسرت شرفات جديدة من أسوار قريش وهيبتها وانتقلت من الهجوم إلى الدفاع، ومن الغطرسة إلى لملمة أشلاء الهزيمة والإذلال، والأكثر من ذلك أن قريشا عادت بدون أبي جهل (عمرو بن هشام) وبدون أمية بن خلف، ولم يعد معها عقبة بن أبي معيط ولا النضر بن الحارث، وفي ذلك استدارة جديدة في وعي قريش، إذا قادها جيل جديد أكثر مرونة وأقل عدوانية تجاه المسلمين.