مع الوعي بالثقل السياسي للناخبين المسلمين في فرنسا، ما فتئ سياسيو هذا البلد يضعون شهر رمضان على جدول أعمالهم السياسية، فهو الآن فرصة للوزراء ورؤساء البلديات والجمعيات والنخب من الديانات الأخرى لإظهار أنفسهم مع المجتمع الإسلامي والانضمام إلى المناسبات الدينية الخاصة بهذا المجتمع.
هذا ما استهلّت به مجلة “لوبس” (L’Obs) الفرنسية تقريرا لكاتبتها سارة دفلاح خصصته لمكانة هذا الشهر في فرنسا في السابق وفي الحاضر، مشيرة إلى أن “وجبات الإفطار” في الشهر الحالي لم تخرج عن المألوف إذ تحولت إلى رهانات سياسية، وهو ما يعدّ دليلا على اندماج الإسلام والمسلمين الممارسين وغير المتدينين في المشهد السياسي الفرنسي، بل إن رمضان الآن أصبح جزءا من الحياة الجماعية للفرنسيين، حسب قولها.
وتستطرد “لوبس” مع محطات من تاريخ فرنسا مع رمضان، لافتة إلى أن سلطات هذا البلد انتبهت إلى هذه الشعيرة خلال الحقبة الاستعمارية وبالذات في بداية القرن الـ20 عندما قررت استخدام مدفع الإفطار لإعلان انتهاء يوم رمضان.
وتنقل هنا عن الصحيفة المحافظة “لو بتي جورنال” (Le Petit Journal) وصفها لتلك اللحظة في عددها الصادر يوم 6 يناير/كانون الثاني 1936، قائلة “طلقة مدفع في المدن وأذان شيخ في الريف، هكذا يكون الإعلان عن نهاية الصيام”. وتستمر الصحيفة لتقول لاحقا “سيدعو السلطان الله أن يعز الإسلام ويهلك أمراء المسيحيين”.
ويرى الكاتب والصحفي الجزائري أكرم بلقايد الياس في كتابه “رمضان والسياسة” (طبعة CNRS ،2000) أن رمضان مثل خلال الفترة الاستعمارية فرصة لتأكيد الهوية، حيث شعر السكان المسلمون في الجزائر بأنهم جزء من مجتمع أكبر بكثير، هو الأمة الإسلامية، وذلك جسّد لديهم شعورا بامتلاك هوية حقيقية.
وخلال الحرب العالمية الأولى، تكيف الجيش الفرنسي مع الممارسات الدينية لجنوده المسلمين وسهّل صيامهم، حسب دفلاح، إذ كانوا من مناطق شتى من العالم الإسلامي وكان عددهم كبيرا نسبيا حيث قتل منهم في معركة فردان وحدها 70 ألفا. واتخذت السلطات، إدراكًا منها لأهمية دورها، الإجراءات اللازمة.
وفي مقال في “فرانس 24” مخصص لرمضان في الخنادق، تستحضر برقية رسمية من وزارة الحرب نشرتها صحيفة “ليكلير” (L’Eclair) الكاثوليكية “حرص” الحكومة الفرنسية على “احترام” دين الجنود “المحمديين” (المسلمين) “الشجعان الموجودين في فرنسا”.
وتحدد هذه البرقية أوقات الوجبات والسلوك الواجب اتباعه وقت الإفطار وعند قدوم عيد الفطر، وتحث على تحسين الوجبات في تلك الأوقات وأخذ عادات المسلمين في الاعتبار.
ويرجع الكاتب الأميركي ريتشارد س. فوغارتي المهتم بدور فرنسا في الحرب العالمية الأولى هذه التسهيلات إلى الحيلولة دون حدوث تمرد داخل الوحدات العسكرية للجنود المسلمين أو داخل المستعمرات.
وتقول دفلاح، نقلا عن المقال نفسه، إن استغلال الدين الإسلامي تكرر في الحرب العالمية الثانية وتحديدًا في ظل نظام “بيتان” وفي العامين الأخيرين من الصراع بعد الإنزال في شمال أفريقيا في 8 نوفمبر/تشرن الثاني 1942 الذي فصل المغاربيين المقيمين في فرنسا عن بلدانهم الأصلية.
وتضيف أن الدولة الفرنسية سعت أكثر من أي وقت مضى إلى ضمان دعم سكان شمال أفريقيا لمجهودها الحربي، وكان عليها -إذن- أن تثبت لهؤلاء الناس البعيدين عن عائلاتهم ولغتهم وبلدهم أنهم في وطنهم من خلال التعاطف معهم في مناسباتهم الخاصة.
وهكذا تقول الكاتبة إن السلطات الفرنسية أمرت بالقيام بما يلزم خلال رمضان عام 1943 لتمكين المسلمين من الاحتفال بعيد الفطر، وأمرت بتقديم توصيات للمطاعم التي يرتادها المسلمون بالبقاء مفتوحة إلى وقت متأخر من الليل رغم حظر التجول الذي كان مفروضا على المنطقة آنذاك.
بل إن السلطات وزعت، رغم الحرب، وضمن حملة دعاية كبيرة، حصصا غذائية سخية شملت بعض الكسكسي والشاي واللحم، بل إنها منحت هؤلاء الرجال يوم عطلة ووفرت لهم من يذبح لهم على الطريقة الإسلامية.