باريس- بعد 6 سنوات من العمل المضني، تكللت جهود منظمات حقوقية في فرنسا بإصدار مذكرة بمحاكمة 3 مسؤولين كبار في النظام السوري أمام محكمة الجنايات الفرنسية، بتهمة التواطؤ على قتل مواطنيْن سوريين يحملان الجنسية الفرنسية، هما مازن دباغ ونجله باتريك، كانا قد اعتقلا في دمشق عام 2013.
وباتريك الدباغ كان طالبا في كلية الآداب والعلوم الإنسانية في دمشق، ووالده كان مستشارا تربويا في المدرسة الفرنسية بدمشق، وقد اعتقلا في نوفمبر/تشرين الثاني 2013 من قبل ضباط قالوا إنهم ينتمون إلى جهاز الاستخبارات الجوية السورية.
ويعتبر عبيدة الدباغ -وهو شقيق مازن- أن هذه الخطوة تمثل نصرا معنويا، ونوعا من إنصاف أخيه وابن أخيه اللذين تمت تصفيتهما في المعتقلات السورية.
ويضيف الدباغ -في حديث للجزيرة نت- أن قضية أخيه ونجله تنطبق على آلاف الضحايا السوريين الآخرين الذين طويت قضاياهم ولم تعقد أية محاكمات تدين المسؤولين عن إزهاق أرواحهم.
وعما تحدثه هذه الخطوة من فرق، قال عبيدة الدباغ إنها إدانة واضحة لمسؤولين محددين في النظام السوري، وصدور أمر قضائي واضح بشأنهم يدين النظام السوري قانونيا بشكل رسمي وليس مجرد كلام يتناقله الناس فيما بينهم، معبرا عن أمله في أن يشجع هذا القرار أهالي الضحايا الموجودين في أوروبا على رفع قضايا مماثلة، والمطالبة بمحاكمات للمسؤولين في النظام السوري.
تفاصيل القضية
وكان باتريك الدباغ يبلغ 20 عاما عندما ألقي القبض عليه في منزله بحي المزة في دمشق، وذلك ليلة 3 نوفمبر/تشرين الثاني 2013. وفي اليوم التالي عاد الأشخاص أنفسهم لاعتقال والده مازن، واقتيدا إلى مركز احتجاز في مطار المزة العسكري (غربي دمشق) بحسب الفدرالية الدولية لحقوق الإنسان، وفي يوليو/تموز 2018 تلقت عائلة الدباغ إخطارا رسميا بوفاة باتريك ومازن الدباغ.
ولم تصادق سوريا على نظام روما الأساسي، ورغم محاولات استصدار قرار من مجلس الأمن لإحالة قضايا الجرائم ضد الإنسانية إلى المحكمة الجنائية الدولية، فقد حال الفيتو الروسي والصيني مرارا دون تمكن المحكمة الجنائية الدولية من فتح تحقيق بشأن سوريا.
وإغلاق باب المحاسبة الدولية، دفع بعبيدة الدباغ وذوي ضحايا آخرين بالتوجه إلى دول أخرى، مثل ألمانيا والسويد وفرنسا وإسبانيا، لرفع القضايا بناءً على ما يعرف بالاختصاص الخارجي أو مبدأ الولاية القضائية العالمية. فمنذ عام 2012، قام أفراد سوريون ومنظمات سورية إضافة إلى منظمات حقوق إنسان دولية برفع قضايا في هذه الدول للتحقيق في جرائم التعذيب والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب.
وبناءً على أساس الجنسية المزدوجة التي يحملها باتريك ومازن الدباغ، تم إجراء تحقيق جنائي في فرنسا في نوفمبر/تشرين الثاني 2016.
وقامت الفدرالية الدولية لحقوق الإنسان (FIDH)، ومنظمتها العضوة في فرنسا: الرابطة الفرنسية لحقوق الإنسان (LDH)، مع عبيدة الدباغ (شقيق مازن)، وبدعم من المركز السوري للإعلام وحرية التعبير (SCM)؛ بإحالة قضية باتريك ومازن إلى وحدة جرائم الحرب الفرنسية.
ووافق 23 شاهدا سوريا على الإدلاء بشهاداتهم في هذه القضية، إما لأنهم كانوا ناجين من مركز احتجاز المزة أو لأنهم واجهوا شخصيا أحد المسؤولين السوريين المتهمين بهذه الإجراءات، إلى أن صدر أمر من قبل قاضي التحقيق بإدانة المسؤولين الثلاثة أمام محكمة باريس الجنائية، بحسب المعلومات الذي ذكرتها المنظمات المعنية بالقضية.
جرائم ضد الإنسانية
وفي تصريح للجزيرة نت، قال رئيس منظمة “عدالة وحقوق بلا حدود” فرانسوا دوروش: “نظرا لأن الضحيتين يحملان الجنسية الفرنسية، فيمكن محاكمة المتهمين وفقا للقانون الجنائي الفرنسي، لكن عدم وجودهم على الأراضي الفرنسية يعطل تفعيل قانون الولاية العامة وبالتالي تنفيذ الأحكام التي ستصدر بحقهم”.
من ناحيته، قدم مدير المركز السوري للإعلام وحرية التعبير مازن درويش شهادته في القضية، وقال للجزيرة نت: “شهادتي قدمتها بصفتي الشخصية كمعتقل سابق في مطار المزة بفرع التحقيق والأمن العسكري، عن التعذيب والانتهاكات والقتل خارج القانون، والشق الآخر من الشهادة لها صفة تقنية كمدير لمؤسسة حقوقية”.
وأوضح أن مؤسسته قدمت معلومات تتعلق بالبيئة القانونية وسلسلة القيادات والرتب العسكرية والأدوار التي يقوم بها كل من علي مملوك وعبد السلام محمود وجميل حسن، إلى جانب تقديم الشهود وذوي الضحايا للمحكمة، لافتا إلى وجود العديد من القضايا المماثلة في فرنسا وأوروبا بشكل عامل، ويجري العمل على التحضير لملفات أخرى تهدف لإدانة مسؤولين سوريين متورطين في جرائم التعذيب والقتل.
ويشير الخبير المختص في القانون الجنائي الدولي المعتصم الكيلاني، في تصريح للجزيرة نت، إلى أهمية هذا التحرك كون جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية لا تسقط بالتقادم، كما أن له أثرا سياسيا مهما في وجه التطبيع الساري حاليا مع النظام السوري.
وأضاف الكيلاني أن عدم مثول المتهمين أمام القضاء الفرنسي سيؤدي إلى استصدار مذكرات توقيف تحول إلى الشرطة الدولية (الإنتربول)، وبعدها تصدر أحكام قضائية جنائية غيابية بحقهم في ارتكاب جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب.
المسؤولون المتورطون في القضية
وبحسب المركز السوري للإعلام وحرية التعبير، فإن علي مملوك هو مستشار الرئاسة الخاص لشؤون الأمن ومدير مكتب الأمن الوطني منذ 2012، ومدير سابق لإدارة المخابرات العامة، وتتهمه منظمات حقوقية بالمسؤولية والإشراف على الترسانة الكيميائية في سوريا واستخدامها لتصفية معتقلين سياسيين في سجن تدمر.
أما اللواء جميل حسن، فهو مدير المخابرات الجوية وأحد أعمدة النظام الأمني الذي أسسه حافظ الأسد منذ تسلمه السلطة بسوريا في سبعينيات القرن الماضي.
ويعتبر أحد أهم الداعمين والمشرفين على القمع العسكري العنيف للمظاهرات التي انطلقت عام 2011، ويتهم بضلوعه في جرائم قتل وتعذيب وانتهاكات متعددة ضد المدنيين.
في حين أن اللواء عبد السلام محمود، هو مدير التحقيق في فرع المخابرات الجوية بدمشق، وأحد أهم ضباط المخابرات، ويشرف بشكل مباشر على عمليات التحقيق والتعذيب في معتقلات المخابرات الجوية السيئة الصيت، وبأوامر وإشراف مباشر منه تم اعتقال وتعذيب وقتل أعداد كبيرة من السوريين.
الخطوة التالية
ونظرا لأن المسؤولين الثلاثة -علي مملوك وجميل حسن وعبد السلام محمود- غير موجودين على الأراضي الفرنسية، فستتم المحاكمة غيابيا بحسب القانون الفرنسي الذي يسمح بذلك، وفي هذه الحال تكون المحاكمة أقصر من المحاكمة في حضور المتهمين، وقد تستمر بضعة أيام فقط، وسيتمكن الأطراف المدنيون والشهود من المشاركة والإدلاء بشهاداتهم.
وفي نهاية المحاكمة، يتوقع صدور الحكم في نفس اليوم، وإذا ثبتت إدانة المتهمين فستصدر محكمة باريس الجنائية أوامر اعتقال دولية جديدة على أساس إدانتهم، بحسب الفدرالية الدولية لحقوق الإنسان.
من ناحيته، قال المعتصم الكيلاني: “إن قرار الاعتقال الدولي سيخول الـ122 دولة الموقعة على اتفاقية التسليم الدولية أن تسلم المتهمين للإنتربول الدولي، وبدوره سيسلمهم إلى القضاء الفرنسي. اعتقد أنهم سيكونون أسرى داخل سوريا”.
وتعمل وحدة جرائم الحرب الفرنسية على 85 تحقيقا أوليا و79 تحقيقا قضائيا على صلة بجرائم دولية ارتكبت خارج الأراضي الفرنسية، منها حوالي 10 قضايا تتعلق بجرائم ارتكبت في سوريا.