تونس- على ضفاف بحيرة السيجومي بالقرب من العاصمة تنتشر خيام بدائية لعائلات هاجرت من ديارها النائية بحثا عن قوتها في بلد يصارع جزء من شعبه الفقر، في وقت يتطلع فيه الرئيس التونسي قيس سعيد إلى استرداد أموال من رجال أعمال تورطوا في الفساد لدفع التنمية بالمناطق الفقيرة.
وبين تلك العائلات المحرومة تعيش ألفة العيادي مع زوجها وأطفالها حياة بدائية خالية من أبسط المرافق، لقد دفعهم الفقر للنزوح قبل نحو عقد من منطقة السواسي بمحافظة المهدية وسط تونس بحثا عن لقمة العيش، لكن ظروفهم بقيت تراوح مكانها بسبب تدهور الوضع بالبلاد.
يطير سرب من الطيور المهاجرة فوق المكان الخالي والمتكدسة فيه أكوام من الفضلات، فيما تطعم ألفة طفليها المنقطعين عن الدراسة، موجهة بصرها نحو إبل ترعاها.
وتقول ألفة للجزيرة نت إنها تكسب لقمة عيش عائلتها من بيع لبن الإبل على حافة الطريق القريب من خيمتها.
تبدو ظروف عيشها في خيمة بالية وسط العراء قاسية، لكن رغم ذلك تأبى العودة إلى ديارها بسبب الفقر والتهميش هناك، وتقول ألفة إنها يئست من وعود السلطة بتحسين الأوضاع الاجتماعية، فقد ترسخ في ذهنها شيء واحد فقط هو أن الفقراء يزدادون فقرا دون مبالاة من السلطة.
وليست ظروف ألفة سوى قطرة في بحر من المآسي التي يعيشها محدودو الدخل في المناطق المحرومة نتيجة الفقر والبطالة وغياب المشاريع وتردي الخدمات والبنى التحتية، وقبل فترة وجيزة نشر المعهد التونسي للإحصاء تحديثا لنسبة الفقر لسنة 2021 حيث قفز المعدل إلى 16.6%.
قانون الصلح
وبسبب ضعف موارد الدولة الموجهة لنفقات التنمية لجأ الرئيس قيس سعيد إلى إصدار مرسوم رئاسي قبل عام يتعلق بإبرام الصلح الجزائي مع رجال أعمال يشتبه في تورطهم بالفساد، والهدف من ذلك استبدال العقوبة الجزائية بدفعهم إلى التعويض والاستثمار في المناطق الفقيرة.
واستند قيس سعيد في مقاربته إلى تقرير لجنة تقصي الحقائق عن الفساد والرشوة التي شكلت بعد سقوط النظام السابق في سنة 2011، مشيرا إلى تورط نحو 460 شخصا في قضايا فساد مالي، ومكررا في خطاباته أن المبالغ المنهوبة في صفقات الفساد تناهز 13.5 مليار دينار (4.4 مليارات دولار).
ورحب التونسيون بمبادرة الرئيس لاسترداد تلك الأموال، ولا سيما في ظل الوضع المالي الصعب الذي تمر به البلاد حاليا، وبين هؤلاء الناشط السياسي أحمد الكحلاوي الذي يقول إن “قيس سعيد ورث إرثا ثقيلا من الخراب طوال العشرية الماضية، وهو يسعى إلى مقاومة الفساد لمصلحة الشعب”.
موارد إضافية
ويضيف الكحلاوي في تصريح للجزيرة نت أن “اللجوء إلى الصلح الجزائي مع أشخاص نهبوا البنوك والدولة بآلاف المليارات معمول به في عديد بلدان العالم”، مؤكدا أن الرئيس قيس سعيد يسعى من خلال هذا التوجه إلى تعبئة موارد إضافية بهدف توظيفها في دفع التنمية وخلق المشاريع ومساعدة الفقراء في مناطقهم.
في المقابل، يقر الكحلاوي بحصول تباطؤ في عملية قبول مطالب الصلح الجزائي من قبل المتورطين في الفساد بسبب “ضغوط من لوبيات ترفض إرجاع الأموال المنهوبة للشعب”، ويقول “كان يفترض أن ينال هؤلاء جزاءهم بالسجن لنهبهم الأموال، ومع ذلك لا تزال بعض اللوبيات ترفض الصلح”.
وقبل أيام، زار قيس سعيد لجنة الصلح الجزائي التي تم تعيين أعضائها بعد 8 أشهر من صدور قانون الصلح، وبشيء من الغضب وجه اتهاما إلى أعضاء اللجنة بالتراخي في استرداد الأموال، وقام بعزل رئيس اللجنة الذي كان قد أعلم الرئيس سابقا بتلقي عشرات المطالب لإجراء الصلح.
وتواجه هذه اللجنة -التي حددت مدة عملها بـ6 أشهر قابلة للتمديد مرة واحدة منذ تشكيلها في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي- رفضا ممن يعتبرون أنها تتعارض مع مبادئ العدالة الانتقالية، في وقت يؤكد فيه مراقبون أن الأموال التي تحدث الرئيس عن استرجاعها خيالية وغير واقعية.
لم تقم بواجبها في إعادة الأموال المنهوبة.. سعيد غاضب من لجنة الصلح الجزائي#تونس pic.twitter.com/PfR39pe4pH
— Tunigate – بوابة تونس (@Tunigate) March 16, 2023
بيع للأوهام
بدوره، يقول القيادي في حزب التيار الديمقراطي المعارض هشام العجبوني في تصريح للجزيرة نت إن الحديث عن استرجاع 13.5 مليار دينار هو “مجرد وهم يسوقه الرئيس للتونسيين للتغطية على إخفاقه في إدارة البلاد”، مستبعدا الحصول على موارد مالية كبيرة من الصلح الجزائي في هذا الظرف الصعب للبلاد.
ويؤكد أن أكبر جزء من عائدات الصلح الجزائي تم إدراجه في موازنة الدولة بعيد الثورة بعدما قامت السلطات بمصادرة ممتلكات أقارب الرئيس السابق زين العابدين بن علي والمتورطين في الفساد، مقللا من قيمة ما تبقى من شركات وممتلكات، والتي قال إنها لن تدر أموالا مهمة.
من جهة أخرى، استغرب الخبير الاقتصادي رضا الشكندالي تكرر خطابات الرئيس قيس سعيد عن استرداد الأموال المنهوبة، لكن دون إدراج أي موارد قد تتأتى من الصلح الجزائي في موازنة الدولة لسنة 2023، معتبرا أن غياب المصداقية يخلق اهتزاز الثقة بين الدولة والمؤسسات العالمية.
ويقول الشكندالي للجزيرة نت إن الحكومة تتكتم على المعطيات المتعلقة بالصلح الجزائي، مما يصعب على المحللين الاقتصاديين تقييم مدى واقعية تلك المبالغ المصرح بها على أرض الواقع، معيبا على الرئيس التونسي عدم الاستعداد الجيد وتوفير كل الضمانات لتطبيق الصلح الجزائي بنجاعة.
فكرة جيدة ولكن
من جهته، قال وزير المالية السابق سليم بسباس في تصريح للجزيرة نت إن فكرة الصلح الجزائي جيدة في حد ذاتها للحصول على تعويض مالي دون الزج برجال الأعمال في متاهات التقاضي، مما يسيء إلى مناخ الأعمال، لكنه يقول إن المبلغ الذي أعلن الرئيس عن إمكانية استرجاعه “مبالغ فيه”.
ويضيف بسباس أن تقرير لجنة تقصي الحقائق عن الفساد والرشوة الذي استند إليه الرئيس مر عليه أكثر من 12 عاما ولم يتم تحديثه ومراجعته وتدقيقه، مؤكدا أن الملفات الثابتة الوحيدة التي يمكن اعتمادها بالصلح الجزائي هي تلك التي أحيلت إلى القطب القضائي المالي.
ويؤكد أن عائدات الصلح الجزائي قد تفي بجزء من احتياجات الدولة، لكنه يقول إنه يجب على الدولة ألا تنتظر تلك العائدات لبناء مخططها التنموي، لأنه سيكون عليها الانتظار طويلا، مبينا أنه دون منظومة سياسية تضمن الاستقرار والوضوح المستقبلي لا يمكن الحديث عن أي نمو أو استثمار.
وتعاني موازنة تونس من عجز قياسي في الموارد، خاصة التمويلات الأجنبية، فيما تحتاج العام الجاري قروضا من الخارج تبلغ قيمتها نحو 5 مليارات دولار، ويأتي ذلك وسط تعطل اتفاق مع صندوق النقد، مما يزيد مخاطر تخلف البلاد عن سداد ديونها وضمان تزويدها بالسلع والأدوية والمحروقات.