أتمّت الحرب الروسية الأوكرانية حولها الأول دون أن تقترب من الفطام، وبدا أن كرة الدم واللهب لا تزال تتدحرج بين ركام المدن الأوكرانية، بينما لم تتمكن كييف من صد الهجوم وإبعاد “الغزاة”، ولم تنجح موسكو في إعلان نصر تقف في وجهه كثير من العوائق والمتاريس والركام المتناثر في أرجاء أوكرانيا.
وبين الهجوم والمقاومة تدخل الحرب عامها الثاني بمؤشرات جديدة لا يمكن أن تمر دون قراءة، إذ يظهر من بين ثناياها ما يمكن اعتبارها تطورات لافتة في مسيرة الحرب وميادين جديدة للصدام بين الغرب الداعم لأواكرانيا وروسيا المهاجمة لها.
وقد تكثفت بعض تلك المؤشرات في الأيام الماضية، ومن بينها:
على أمواج البحر الأسود.. أول مواجهة مباشرة بين موسكو وواشنطن
على منكب المظلومية قدمت واشنطن روايتها لحادثة تحطم مروحية استطلاع أميركية مسيرة فوق البحر الأسود، ونشرت واشنطن فيديو يوم الخميس المنصرم يظهر مقاتلتين روسيتين وهما تعترضان المسيرة الأميركية قبل أن تهوي إلى أعماق البحر الأسود.
لم تزد مدة الفيديو الذي عرضته وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) على 40 ثانية صورتها المسيرة “إم.كيو-9 ريبر” (MQ-9 Reaper) في أثناء مهمة استطلاع في المجال الجوي الدولي بالقرب من شبه جزيرة القرم التي أصبحت بقوة موسكو جزءا من روسيا منذ عام 2014، بينما لا تزال كييف وحلفاؤها يعتبرونها جزيرة أوكرانية مختلفة.
ووفق الرواية الأميركية، فقد أمطرت مقاتلتان روسيتان من نوع “سوخوي-27” المسيرة الأميركية بوابل من الوقود، بينما نفت روسيا فرضية التصادم واعتبرت أن المسيرة الأميركية استفزت المجال الجوي الروسي، وسقطت نتيجة مناورات حادة.
وبينما تمسكت واشنطن بالمظلومية وادّعت أن روسيا تحاول انتشال حطام الطائرة المسيرة التي هوت في أعماق البحر الأسود، فإنها تعزي نفسها بأن الطائرة لم تعد تحمل معلومات ذات قيمة استخبارية، وضمن هذا المتغير المثير فإن واشنطن أيضا حريصة على نفي دعوى موسكو بمشاركة فعلية ومباشرة للولايات المتحدة في الحرب إلى جانب أوكرانيا، وهو ما يعني إعلان حرب ضد روسيا وفتحا لجبهة مواجهة لا تتمنى واشنطن فتحها في القريب العاجل.
“صنع في الصين”
بدأت الصين -التي لم تندد بالحرب الروسية في أوكرانيا- مسارا جديدا من الوساطة، وعبرت أخيرا عن رغبتها في إيصال ضفتي الصراع إلى سلام يجنب العالم تفاقم الحرب التي يشتد أوارها مع كل يوم.
وفي هذا السياق، يستعد الرئيس الصيني شي جين بينغ لزيارة روسيا، وستكون الحرب في أوكرانيا على جدول نقاشه مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين، خصوصا في ظل اتساع الفجوة في العلاقة بين بكين وواشنطن.
وربما يأتي هذا المسعى الصيني معززا لنجاح سابق في تقريب الشقة بين السعودية وإيران، وهو ما يغري بكين بأن تتحول إلى وسيط سلام في ملفات عديدة، وأن تنتج للعالم تسويات “صنعت في الصين”.
وإلى جانب مضمون الوساطة التي عبرت عنها الصين من خلال مقترحها للسلام في أوكرانيا، فإن الزيارة التي سيقوم بها الرئيس الصيني لموسكو للمرة الأولى منذ اندلاع الحرب، بل للمرة الأولى منذ 4 أعوام تقريبا، تمثل مكسبا كبيرا لبوتين الذي يحاول الغرب أن يفرض عليه عزلة دبلوماسية عالمية، ويطوّق بلاده بالعقوبات الاقتصادية.
وفي دائرة الاتهام، فإن بكين ليس فوق مستوى الشبهات لدى الغرب عندما يتعلق الأمر بدعم متوقع للروس في أوكرانيا، وهو ما تنفيه الصين بقوة وتزعم أنه لا سعي إلى ذلك، رغم حديث الكرملين عن وثائق ثنائية “مهمة” سيتم توقيعها خلال الزيارة المرتقبة للرئيس الصيني.
وتجد الصين نفسها في مواجهة خيارات صعبة، فهي صديق حميم لروسيا ومشتر أساسي للحبوب الأوكرانية؛ تجد في الحضن الروسي ثنائية دفاع وتعاون في مواجهة الغرب وفي الميرة الأوكرانية سلة غذاء مهمة، واستمرار الحرب يعني استنزاف العالم كله وخصوصا الأقربين الذين هم أولى بأن يصلهم اللهب وأن تنطلق من عندهم وفود الوساطة وهو حافز إضافي للصين للتحرك في الملف الأوكراني.
مقاتلات الغرب.. سور جوي لحماية أوكرانيا
أخيرا انفرجت كف الغرب الضنينة عن تقديم الطائرات المقاتلة لأوكرانيا، رغم ما يمدها به من مال وسلاح منذ اندلاع الحرب. ففي الأيام الأخيرة أعلن الرئيس البولندي أندريه دودا الخميس أن بلاده ستسلم دفعة أولى من 4 مقاتلات قاذفة من طراز “ميغ-29” إلى أوكرانيا، وذلك يعني أن حلف شمال الأطلسي بدأ يتخذ موقفا أكثر وضوحا تجاه أوكرانيا وأقوى حدة تجاه روسيا.
وتمتاز الطائرات البولندية بأنها بقية مما تركت ألمانيا الديمقراطية السابقة، وهي في آخر مراحل عملها، لكنها ما زالت قابلة للعمل العسكري الميداني ولا يحتاج طياروها إلى تدريب كبير.
وأمام الحماسة البولندية كانت الولايات المتحدة أكثر وضوحا حيث اعتبر المتحدث باسم مجلس الأمن القومي جون كيربي أن قرار بولندا “لا يغير حساباتنا فيما يتعلق بطائرات إف-16” الأميركية الصنع، مضيفا أن الخطوة البولندية “لا تؤثر ولا تغير” ذلك.
ولا تمثل الطائرات البولندية فتحا مبينا لكييف التي صرح الناطق باسم سلاحها الجوي بأن “مقاتلات ميغ لن تحل المشاكل، نحن بحاجة لمقاتلات إف-16. لكن طائرات الميغ ستسهم في تعزيز قدراتنا”.
وبعد الخطوة البولندية، قررت سلوفاكيا تسليم 13 طائرة “ميغ-29” من الإرث الصناعي السوفياتي إلى أوكرانيا لتواجه المقاتلات الروسية، وذلك يعني استمرار وتعزيز التوسع في دعم أوكرانيا بالسلاح والمقاتلات بعد نحو عام من الإغراق في الدعم ومشاعر التضامن والمواساة.
أما روسيا فقد توعدت الطائرات البولندية بالتدمير، حسب المتحدث، مضيفا أنها لن تغير من أهدافها وسخرت من المدد الغربي، مؤكدا أن تلك الدول “تتخلص من معدات قديمة غير ضرورية” لا أكثر!
الحبوب.. انتهاء اتفاق التصدير ومخاوف من أزمة غذاء عالمية
انتهى أمس السبت الاتفاق الدولي الذي سمح بتصدير الحبوب من موانئ أوكرانية، ورغم إصرار روسيا على ألا تتجاوز مدة التمديد 60 يوما دون سبب مفهوم فإن الأمم المتحدة تسعى جاهدة إلى تمديده 4 أشهر، وتدعمها في ذلك تركيا ودول أخرى.
وترى أوكرانيا في سعي روسيا إلى تقليص مدة السماح بالتصدير “سعيا من المعتدي “لمواصلة الابتزاز والتسبب في استفحال أزمة الغذاء العالمية”.
وبين المسعى الروسي والأوكراني يعيش العالم من جديد رعبا بشأن أزمة غذاء عالمية قد تنجرف إليها المائدة العالمية إذا ما أوصدت الموانئ الدولية عن تصدير الحبوب الأوكرانية التي تمثل جزءا أساسيا من سلة الغذاء العالمي.
بوتين “مجرم حرب”.. نهاية لغة الدبلوماسية
كما شهدت الأيام الماضية أيضا تطورا لافتا على مسار التصعيد الغربي مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين؛ حيث أصدرت المحكمة الجنائية الدولية -مقرها مدينة لاهاي الهولندية- مذكرة اعتقال بحقه بعد اتهامها له ولقواته بارتكاب جرائم وانتهاكات إنسانية بحق أطفال ومدنيين عزل في أوكرانيا، وهو ما ترفضه موسكو التي ليست هي ولا أوكرانيا عضوين في المحكمة الدولية.
وتعني الخطوة -نظريا- أن بوتين يمكن اعتقاله إذا ما زار إحدى الدول الـ123 الأعضاء في المحكمة الجنائية الدولية، لكن من غير المرجح اعتقاله، وإن كان الوقع السياسي للمذكرة ودلالتها قضائيا وجنائيا يتسمان بثقل كبير على سمعة ومكانة زعيم سياسي مثل بوتين، خصوصا أنه سينضاف إلى قائمة قصيرة من الرؤساء الذين صدرت بحقهم مذكرة اعتقال، ويكون ثالث ثلاثة أحدهما سجين هو عمر حسن البشير والآخر قتيل هو معمر القذافي.
وترى المتحدثة باسم باسم وزارة الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا أن مذكرات الاعتقال “ليس لها قيمة في بلادنا” لأنها ليست طرفا في نظام روما الأساسي، وهي الاتفاقية التي تستند إليها محكمة جرائم الحرب الدائمة.
وترى المحكمة في لائحة اتهاماتها المفوضة من أوكرانيا أن “هناك مزاعم بأن الجرائم ارتُكبت في الأراضي المحتلة الأوكرانية بدءا من 24 فبراير/شباط 2022 على الأقل؛ وهناك أسباب منطقية للاعتقاد بأن السيد بوتين يتحمل وحده المسؤولية الجنائية عن الجرائم المذكورة سابقا”.
ومع حدة الاتهام تضيق المناورة الروسية، حيث تتهم كييف وهيئات دولية أخرى موسكو باحتجاز أكثر من 6 آلاف طفل وهو ما لا تنفيه روسيا بل تتذرع بدوافع إنسانية تتعلق بإبعاد أيتام وأشخاص فاقدي السند عن دائرة اللهب.
زيارة بوتين لإحدى أهم المدن الأوكرانية
وفي خطوة أخرى لافتة، زار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مدينة ماريوبول (شرقي أوكرانيا) الواقعة ضمن مقاطعة دونيتسك التي ضمتها روسيا العام الماضي، والزيارة هي الأولى له إلى هذه المدينة منذ السيطرة عليها في أعقاب حصار استمر أشهرا في بداية الحرب في أوكرانيا.
ونقلت وكالة “تاس” عن الكرملين أن بوتين سافر إلى ماريوبول بطائرة مروحية. وقاد الرئيس الروسي سيارة للتجول في مناطق عدة بالمدينة حيث توقف وتحدث إلى السكان.
وبين تلك المؤشرات المتعددة، تبرز مجالات متعددة للتأويل والتساؤل عن آفاق اللهب في عامه الثاني، وإذا كان الغرب سيعزز دعمه لأوكرانيا بأسلحة نوعية أم سيكتفي بالتخلص من معدات قديمة وغير حاسمة، وهل سيفتح التنين الصيني معبر سلام بين البلدين بعد عام من اللهب والصراع غير المحسوم؟