سواء كسبتها روسيا أو أوكرنيا.. باخموت سيسجلها التاريخ كمثال على مقبرة أوهام الانتصار العسكري.
قال موقع ميديا بارت (Mediapart) الفرنسي إن الجوانب الإستراتيجية للمواجهة في بلدة التعدين الصغيرة المسماة باخموت بأوكرانيا، تُظهر سبب قيام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بإلقاء كل قواته هناك ولماذا تمسكت القيادة الأوكرانية من ناحيتها بهذه المدينة التي لم تكن معروفة قبل الحرب.
وأوضح الموقع -في مقال بقلم سيدريك ماس- كيف تستمر مدينة باخموت، بعد 7 أشهر من القتال العنيف، في مقاومة الجنود الروس الذين يهاجمونها باستمرار، وكيف يبدو الأوكرانيون مصممين على عدم إخلائها أو الاعتراف بالهزيمة رغم نكساتهم، لتستمر الخسائر في كلا الجانبين في التزايد بمعدل مجنون.
ولتقدير أهمية معركة باخموت، استعاد الموقع لحظة تحول الحرب لمصلحة الجيش الأوكراني الذي استعاد السيطرة على أجزاء كبيرة من الأراضي في الشمال الشرقي وفي خيرسون، ليتخذ بعد ذلك موقفا دفاعيا طوال فصل الشتاء والتخلي عن المبادرة لموسكو، لتستعيد بدورها الصعود الإستراتيجي والتشغيلي، وتصبح هي التي تحدد وتيرة العمليات وأين ومتى سيتم إطلاقها.
إضعاف دعم كييف
غير أن موسكو -كما يقول الكاتب- لا تستطيع الاستفادة من هذه الميزة المؤقتة إلا من خلال تحقيق نصر عسكري أي بالاستيلاء على مدينة، لأنها تعتقد أن الرأي العام في الدول الداعمة لأوكرانيا إذا فقد الأمل في إمكانية الانتصار على الجيش الروسي، سيجعل دعمه لكييف يتضاءل.
تم تنظيم التخطيط لعمليات فصل الشتاء بالكامل -حسب الكاتب- وفقا لهذا الهدف، وهو بذل جهد رئيسي ضد باخموت ثم القيام بعدد كبير من الهجمات على طول الجبهة، ولكن لماذا باخموت بالذات؟ يتساءل الكاتب، ليرد بأن النجاح فيها سيسهل مواصلة التقدم نحو آخر المدن الرئيسية في دونيتسك، إضافة إلى أنه سيوفر انتصارا لقوات فاغنر التي أصبحت محورية للجهود العسكرية الروسية وكذلك في حرب الدعاية.
وأشار الكاتب إلى أن ردود الفعل التي أعقبت الاستيلاء على سوليدار في يناير/كانون الثاني الماضي، وتلك التي نشهدها مع الإعلان عن سقوط الجزء الشرقي من باخموت، تؤكد أن هذه المعركة ينظر إليها كمواجهة في المجال المعرفي، لغرس الشك حول احتمال فوز أوكرانيا، وذلك ما يفسر نبرة وسائل الإعلام الروسية التي لا تتردد في التشكيك في انتصار أوكرانيا، مسلطة الضوء على “مخزون روسيا الذي لا ينضب”.
ومع معركة باخموت وصلت حرب العقول ذروتها، وبالتالي يحتاج الروس إلى الاستيلاء على المدينة لإقناع أنفسهم بأنهم لن يخسروا، كما يريد الأوكرانيون منعهم من ذلك لإظهار إمكانية هزيمة موسكو عسكريا.
المناورة والمناورة المضادة
وتمثل معركة باخموت مناورة عملية معقدة أطلقتها موسكو، وتواجهها كييف بمناورة مضادة، حيث يسعى كل من المعسكرين إلى محاصرة الآخر من خلال المراهنة على أن الخسائر التي يلحقها به تكون أكبر من تلك التي يتكبدها، مما يثقل قدرة الخصم على العمل في ربيع وصيف عام 2023.
ويريد الإستراتيجيون الروس -حسب سيدريك ماس- إضعاف قوات العدو وحرمان أوكرانيا من وسائل النصر التي ما زالت تأمل الحصول عليها في ساحة المعركة من خلال القيام بكل شيء لتقليل الدعم الغربي الحيوي بالنسبة لأوكرانيا، وجعل الجنود المستنزفين يشكون في قيادتهم وقدرتهم على المقاومة، حتى إن البعض يتحدث عن حرب استنزاف.
أما بالنسبة للإستراتيجيين الأوكرانيين فإن المنطق مختلف، فهم يقاومون المناورات الروسية للحفاظ على قدراتهم الهجومية واستنفاد القدرات العسكرية الروسية لإضعاف قدرتهم على استئناف العمليات الهجومية، وهو نوع من “الفخ المضاد” الذي يسعى إلى قلب الفخ الذي نصبه الروس لهم.
ومع ذلك، يُظهر فحص مسار المعركة أن القوات التي اشتبك بها الجنرال سيرسكي قائد الجيش الأوكراني، لا تزال محدودة مقارنة بالقوات المتاحة، مما يعني أن رهان كييف بالحفاظ على قدراتها الهجومية قد نجح، خاصة أن هناك مؤشرا آخر هو تكاثر أعمال التحصين الروسية بهدف جعل عمليات كييف المستقبلية أكثر صعوبة، مما يدل على أنه لا توجد أوهام في موسكو بشأن الاستنزاف الذي تتعرض له قوات الطرف الآخر.
ومهما كانت نتيجتها، فمن المحتمل جدا أن ينظر المؤرخون لمعركة باخموت بوصفها مقبرة لأوهام الانتصار العسكري. ويبقى أن نرى لمن ستكون الغلبة في نهاية المطاف.. أهي لروسيا أم أوكرانيا؟.