أسّست فرنسا لنفسها إمبراطورية في أفريقيا منذ استيلائها على أجزاء واسعة من القارة، ونفّذت إستراتيجيات وسياسات تؤمّن بقاءها الدائم فيها، وتأرجحت سياستها من الاستيعاب إلى التعاون، ثم سياسة الحكم المباشر وغير المباشر.
وبعد استقلال الشعوب الأفريقية، مارست الدولة الأوروبية سياسة أطلقت عليها “أفريقيا الفرنسية”، وكانت عنوانا لإستراتيجية تقوم على الهيمنة والاستغلال والفوقية.
كيف وظّفت فرنسا إستراتيجية “الفناء الخلفي”؟
في تعريف القواميس هذا مصطلح في العلاقات الدولية استخدم تعبيرا عن مجال نطاق النفوذ الفرنسي، وكناية عن مستعمراتها في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى.
وأصبحت هذه المستعمرات بموجب “الفناء الخلفي” جزءا من سياسة فرنسا الاقتصادية والثقافية وعلاقاتها الخارجية، ووظفتها بالتدخل الفج في السياسات الداخلية للدول الأفريقية.
ووفق دراسة أجراها مات تيريتلي من جامعة تكساس، فإن فرنسا أجرت ما يزيد على 20 تدخلا بين عامي 1961و1992، ونحو 17 مرة بين 1992 و2017 في الدول الأفريقية. وأكد أن هذه السياسة تسترشد بالمصلحة الذاتية البحتة والمرتبطة بالمصالح الفرنسية السياسية والثقافية والاقتصادية والدفاعية والأمنية.
ما حقيقة الرؤية الفرنسية الجديدة لأفريقيا؟
بعد الإخفاقات المتكررة للسياسة الفرنسية في القارة السوداء، أعلن الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي عام 2007 سياسة جديدة تقوم على الشفافية والمساءلة وحساب المصالح والحوار الندي.
ووصف علاقات فرنسا بأفريقيا بأنها جزء من “الآثار العاطفية والتاريخية للعصر الاستعماري، التي أدت إلى إعاقة العلاقات وعزّزت الدور الأبوي من دون أن تنعكس السياسة على أرض الواقع من الناحية العملية”.
وفي 2017، أعلن الرئيس الحالي إيمانويل ماكرون طي صفحة فرنسا الأفريقية والدخول في عهد مختلف. وفي فبراير/شباط الماضي، وقبيل زيارة لماكرون؛ أعلن أيضا عن تحول في سياسة فرنسا نحو أفريقيا لعلاقات “جديدة ومتوازنة ومسؤولة”، وفقا لفرانس برس.
كما وصفها بعلاقات تتحلّى بالتواضع والمسؤولية، رافضا المنافسة الإستراتيجية التي يفرضها من يسيطرون هناك مع جيوشهم ومرتزقتهم، في إشارة إلى روسيا المنافس الأقوى لفرنسا في أفريقيا.
ما أبرز ملامح السياسة الفرنسية الجديدة؟
أكد ماكرون فراق عهد الفرانكفونية وسياسة دعم الحكام المستبدين، ولخّص ملامح الرؤية الجديدة في:
- خفض الوجود العسكري في أفريقيا إلى أدنى مستوى (3000 جندي بدل 5500).
- إنهاء القواعد العسكرية الفرنسية، وتحويلها إلى أكاديميات تشارك في إدارتها فرنسا والدول الأوروبية والأفريقية.
- التركيز على مشاريع التنمية والاحتياجات الإنسانية.
- رفض المنافسة الإستراتيجية التي تنخرط فيها بعض الأطراف الدولية.
- التوسع في العلاقات مع الدول الناطقة بالإنجليزية مثل كينيا وغانا ونيجيريا.
- توسيع نطاق الشركاء في أفريقيا بوصف ذلك تحديا حيويا لأوروبا بأكملها.
- تركيز وتعزيز القوة الناعمة مع الدول الناطقة بالفرنسية، وتسهيل التأشيرات للطلاب ودعم الرياضة.
كيف استقبلت أفريقيا السياسة الفرنسية الجديدة؟
فقدت فرنسا مصداقيتها في أفريقيا بسبب الوعود التي لا تكترث بالوفاء بها، فمنذ ما يزيد على 15 عاما قالت أيضا إنها بصدد تغيير سياستها، ولكنها لم تطبق في الواقع شيئا مما تقوله، ولذلك استقبل الأفارقة زيارة ماكرون بمظاهرات في الجابون تندد بدعم فرنسا للرئيس عمر بونغو الذي يحكم منذ 2009، وورث الحكم عن والده ولم يكن عن جدارة استحقها.
وفي الكونغو الديمقراطية، تظاهر الكونغوليون ضد ما أسموه “الصمت” الفرنسي على دعم رواندا متمردي التوتسي شرقي الكونغو، وواجهه الرئيس فليكس تشيسكيدي برفض “التعامل الأبوي” وازدواجية المعايير، وهي إشارات كافية لرفض السياسة الفوقية التي تمارسها الدول الغربية، وفي القلب منها فرنسا.
كيف ينظر المراقبون والمختصون إلى المقاربة الفرنسية الجديدة؟
ينظر كثير من المراقبين إلى جهود الرئيس الفرنسي الحالي ماكرون عبر زياراته التي بلغت 18 زيارة منذ عهدته الأولى، بأنه يخوض معركة وجود في أفريقيا بعد التراجع المريع في نفوذ فرنسا السياسي والثقافي، ويحاول الالتفاف على نتائج السياسات القديمة عبر صياغة نهج ربما يجد قبولا نسبيا.
وذهب باحثون من معهد “تشات هام هاوس” البريطاني إلى أن ماكرون يهدف من جولاته هذه إلى البحث عن مواجهة روسيا في أفريقيا، إضافة إلى تقليص البعد العسكري في العلاقات مع هذه القارة حتى لا يفقد ما تبقّى من مكاسب هناك.
أما فهيرا مان كوفي، المتخصص في الدراسات الأمنية بمعهد دكار في السنغال، فيرى أن الرغبة الفرنسية المتكررة في تغيير سياساتها وعلاقاتها مع أفريقيا تفتقر إلى المبادرات العملية على الأرض، وظلت محبوسة على مستوى النوايا فقط.
ودلل على ذلك بأن فرنسا لم تعلن أية جداول زمنية لتنفيذ إستراتيجيتها الجديدة وإنهاء السياسات القديمة لأن العمق الأمني هو من يسيطر على سياستها.
ما فرص نجاح السياسة الفرنسية الجديدة؟
رغم تجنّب ماكرون التحدث عن حقوق الإنسان والقيم الأوروبية في نهجه الجديد، مركّزا على الشراكة والتعاون، فإن سياسته رهينة بتجاوز فرنسا التنميط الذي ظلت تتعامل به مع الأفارقة.
ولعل الشرط الرئيسي لنجاح السياسة الجديدة هو الاعتراف بأخطاء الماضي، وتعويض الأفارقة عن فترة الاستغلال، وهو مطلب أفريقي ثابت.
ويرى الباحث في قسم السياسة والعلاقات الدولية بجامعة أكسفورد كويتين كوهين أن السياسة الفرنسية الجديدة تواجه عددا من المشكلات، يلخصها في القصور البيروقراطي والتعقيدات في دوائر السياسة الخارجية.
كما أشار إلى المواقف السياسية المثيرة للجدل من القضايا الأفريقية، وإلى أن فرنسا لم تطور حتى الآن سياسة تتواءم مع التحوّلات الاجتماعية والسياسية في أفريقيا. وأشار إلى عنصر آخر بوصفه تحديا لنجاح السياسة الفرنسية الجديدة، وهو ظهور منافسين جدد على الساحة الأفريقية كالصين والهند وإسرائيل والسعودية وتركيا كشركاء في التنمية.
ختاما، تحتاج فرنسا للتعلم من الماضي وتصحيح أخطائها ورد الاعتبار للأفارقة، من خلال التعامل الواعي بعيدا عن وصفهم بأنهم “لم يدخلوا التاريخ بعد”، كما قال الرئيس الفرنسي السابق فرانسوا هولاند، أو أن “فرنسا ليس دورها إصلاح كل المشاكل في أفريقيا” كما قال ماكرون. وهي بلا شك عبارات من القاموس الفرنسي القديم الذي يهيمن عليه الهوس العرقي والتفوق القومي.