بغداد– في الذكرى العشرين للغزو الأميركي للعراق عام 2003، لا يزال الصراع الأميركي الإيراني يمثل أحد التحديات الأمنية التي هددت استقرار العراق خاصة مع تزايد نفوذ الدولتين في الشأن الداخلي ومركز صناعة القرار ببغداد وسط حالة من المناكفة السياسية والأمنية لا تزال حاضرة إلى اليوم.
وشكّل هذا النفوذ المزدوج تحديات كبرى أمام الحكومات العراقية المتعاقبة في محاولة الموازنة بين مصالح البلدين داخل العراق، لا سيما مع انعكاس هذه المصالح إلى مختلف أشكال الصراع السياسي والأمني على الأراضي العراقية.
سنوات الغزو
وفي خضم هذا الصراع المستمر منذ عقدين، يقول مدير المركز السومري للإعلام ودراسات المستقبل فارس المهداوي، إن التزاحم الأميركي الإيراني في العراق بدأ مع تحرك القوات الأميركية صوب الحدود العراقية خلال الأشهر الأولى من عام 2003، والذي كان موضع ترقب ومتابعة دقيقة من قبل الحكومة الإيرانية التي كانت تشعر بأنها جزء من المشروع الأميركي لتنفيذ مشروع الشرق الأوسط الجديد.
ويضيف -في حديثه للجزيرة نت- أن إيران أدركت خطط القوات الأميركية لتطويقها بعد أن أطبقت واشنطن سيطرتها على أفغانستان عام 2002، حيث زاد من قلق القادة الإيرانيين آنذاك وجود إدارة أميركية يمينية شديدة العداء لإيران.
ووظفت طهران كافة الأحزاب والشخصيات المعارضة لنظام صدام حسين التي كانت تتخذ من إيران ملاذا آمنا لها؛ من أجل لقاء المسؤولين الأميركيين حيث عرضت طهران مساعدة القوات الأميركية لملاحقة المسؤولين وقادة الجيش العراقي، وأظهرت اهتمامها بإعادة البناء، كما حرصت على وصول الأحزاب العراقية “الحليفة لها” إلى حكم البلاد، كما يوضح المهداوي.
ويشير مدير المركز السومري إلى أن الخلاف بين الدولتين ظهر عندما اتهمت الإدارة الأميركية إيران بالسعي لإفشال المشروع الأميركي في العراق، وهو ما دفع النظام الإيراني إلى استخدام ما وصفها بـ”المواجهة الوقائية” لإجبار واشنطن على عدم التفكير في استهداف طهران، منوها إلى أن إيران دخلت بحذر على خط العمليات المسلحة ضد الأميركيين في مناطق محددة، بهدف تفجير الصراع الطائفي وترك القوات الأميركية في وضع صعب.
الانسحاب الأميركي
ومع وصول الأوضاع في العراق لدرجة الفلتان الأمني، اعترفت الإدارة الأميركية السياسية والعسكرية بالإخفاق في إدارة شؤون العراق، حيث أعلن الرئيس الأسبق جورج بوش الابن أن رئيس الوزراء العراقي آنذاك نوري المالكي هو الرجل المناسب والقوي لحكم العراق عام 2006، فكان هذا -بحسب المهداوي- إقرارا أميركيا بتسليم إدارة العراق لإيران، وهو ما رحبت به الإدارة الإيرانية، إذ منذ ذلك التاريخ وحتى اليوم بات منصب رئيس وزراء العراق رهينا بموافقة إيران.
ويتابع معلقا “إن تأجيج إيران للصراع الطائفي في العراق جعل الميزان الأمني للقوات الأميركية في تخبط متزايد، فاتجهت واشنطن للتفاوض مع العراق بمباركة إيرانية وفق اتفاقية الإطار الإستراتيجي التي حفظت لواشنطن إستراتيجيتها الخاصة بالعراق والمنطقة، وأبرزت ظاهريا نصرا كبيرا لحكومة المالكي وإيران في العراق”.
ويعود المهداوي ليؤكد أن إيران كانت أكثر المستفيدين من إتمام عملية الانسحاب الأميركي من العراق، كما كانت أول المستفيدين من دخول القوات الأميركية إليه، حيث استثمرت ذلك في تنفيذ مخططاتها وتوسيع نطاق نفوذها في العراق، ثم ساومت واشنطن على صفقة تضمن الخروج الآمن لقواتها مقابل تنازلات أميركية في ملفات إقليمية تهم طهران، وعلى رأسها الملف النووي الإيراني والأزمة السورية وملف حزب الله في لبنان، وقد ظهر ذلك جليا خلال إبرام الاتفاق النووي عام 2015، بحسبه.
تطور الصراع
ومع تطور الأحداث، تصاعد الصراع بين واشنطن وطهران على الأراضي العراقية مع تصاعد دور إيران الإقليمي، وذلك وفق أستاذ السياسة الإستراتيجية قحطان الخفاجي، الذي أشار إلى أن هيمنة إيران الكبيرة وتوسع الجهات العسكرية الموالية لها، أغاظ الإدارة الأميركية ودفعها للعمل على تحجيم التمدد الإيراني واحتواء نفوذه المتنامي في العراق.
وعن انعكاس هذا الصراع، يضيف أن “التدخلات الأميركية والإيرانية في تشكيل الخارطة السياسية أسهم بتشكيل حكومات عراقية مشوهة؛ انطلاقا من عدم قدرة أي طرف على تجاوز الطرف الآخر وحسم القرار في العراق لصالحه”، ولذلك ولدت حكومات ضعيفة اتصفت بالهشاشة وعدم القدرة على تحقيق مطالب الدول المتصارعة أو الشعب العراقي.
كما أسهم تمدد تنظيم الدولة الإسلامية وسيطرته على مساحات واسعة من الأراضي العراقية صيف عام 2014 في تكريس النفوذ الأميركي والإيراني بالعراق في آن معا، وحول ذلك يرى المستشار العسكري صفاء الأعسم، أن سيطرة تنظيم الدولة على العديد من المدن العراقية ساعدت الولايات المتحدة وإيران على تكريس وجودهما بالعراق.
ونتيجة لذلك، يرى الأعسم -في حديثه للجزيرة نت- أن قوات التحالف عززت قواعدها العسكرية داخل العراق بذريعة مكافحة التنظيمات الإرهابية، فيما سارعت طهران لإدخال السلاح ومساعدة الحكومة العراقية، وبالتالي حققت طهران مصالح كبيرة.
وحول استغلال إيران لمعارك استعادة المدن العراقية من سيطرة تنظيم الدولة لأجل شرعنة نفوذها في العراق، يؤكد الأعسم بالقول “لولا التنظيمات الإرهابية لما استطاعت إيران أو أي دولة التدخل بشؤون العراق تحت مظلة محاربة الإرهاب”، لافتا إلى أن جميع الدول التي تعاونت مع العراق في محاربة التنظيم حصلت على ضريبة ذلك من بغداد، سواء من الناحية المالية أو عن طريق التدخل والهيمنة، وفق قوله.
الاحتجاجات والمسيّرات
شهدت السنوات الأخيرة تصاعد الصراع الأميركي الإيراني، لا سيما مع اتخاذ إيران من العراق قاعدة انطلاق لتوسيع نفوذها في دول المنطقة، حيث نجحت في إجهاض الجهود الأميركية والإقليمية، خاصة في سوريا، بحسب الباحث السياسي محمد نعناع.
ويضيف نعناع -في حديثه للجزيرة نت- أن الولايات المتحدة أدركت تنامي الدور الإيراني انطلاقا من العراق وعملت على تقويضه، منوها إلى أن “دعم واشنطن للاحتجاجات الشعبية العراقية التي رفضت التدخلات الإيرانية عام 2019 لم تكن مباشرة أو واضحة، لكن تحرك إيران لإيقاف تلك الاحتجاجات وإجهاضها كان بصورة مباشرة وفق أهداف واضحة وإستراتيجية”.
ويعزو الباحث العراقي أسباب تصاعد الصراع الأميركي الإيراني خلال حكومة عادل عبد المهدي إلى إدراك الإدارة الأميركية وأطراف سياسية عراقية مختلفة أن استمرار هذه الحكومة سيجعل من العراق ساحة دائمة لإيران.
وكانت ذروة الصراع المباشر بين واشنطن وطهران في العراق خلال أحداث اقتحام السفارة الأميركية ببغداد عام 2019، ثم الضربة الجوية الأميركية على مدينة القائم التي قتل فيها عدد كبير من عناصر كتائب حزب الله العراقي، وما حصل بعدها في 3 يناير/كانون الثاني 2020 من اغتيال قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس بضربة جوية بمطار بغداد الدولي.
ويرى الباحث العراقي أن المماحكات الأميركية الإيرانية بالعراق تجاوزت حرب الوكالة إلى حرب مباشرة، بعد أن ردّت إيران بالضربات الصاروخية التي استهدفت قاعدة عين الأسد الأميركية غربي العراق في 8 يناير/كانون الثاني 2020 انتقاما لاغتيال واشنطن قائد فيلق القدس الإيراني قاسم سليماني ببغداد.
في السياق، يرى نعناع أن الأطراف المرتبطة بإيران اعتبرت حكومة مصطفى الكاظمي الأقرب إلى أميركا، لذلك حرصت الفصائل المسلحة على تحميل الكاظمي جلّ قضايا الفساد والتدهور الأمني والاقتصادي، ثم ما لبثت هذه الفصائل “الموالية لإيران” أن أوقفت أعمالها التصعيدية بعد تشكيل حكومة محمد شياع السوداني الحالية، لإيصال رسالة مفادها أن باستطاعتهم التحكم بزمام الأمور وتهدئة الأوضاع في العراق.