شمال سوريا- “ما زال مشهد جسدها وهو مسجى على الأرض لا يفارق مخيلتي” بهذه الكلمات تروي رغد (32 عاما) اللحظات الأخيرة لشقيقتها التي انتحرت عبر تناول حبوب الفوسفيد في شمال غرب سوريا.
تؤكد رغد أن شقيقتها بقيت طوال أسبوع تعيش حياة غير طبيعية منعزلة بشكل تام، وخصوصا أن زوجها انفصل عنها وقرر منع أطفاله من لقائها وهو ما زاد من حزنها.
وفي حديثها للجزيرة نت، تقول رغد إن شقيقتها علا أرسلت أخيها الصغير إلى الصيدلية البيطرية لشراء حبوب الفوسفيد لاستخدامها في حفظ المؤن، وبعدها تناولت حبة لتفارق الحياة خلال دقائق، مضيفة “حاولنا إسعافها ثم نقلها إلى المستشفى، حيث لم نكن نعلم السبب الذي جعلها تغيب عن الوعي، وبعد وصولنا أدخلها الأطباء إلى غرفة العمليات، وبعدها فاجأنا الطبيب المختص بخبر وفاتها، قائلا إن عملية غسيل المعدة قد فشلت بسبب التأخر، وفارقت الحياة”.
أعداد متزايدة
قصة انتحار رغد لم تكن الوحيدة، حيث سجل فريق “منسقو استجابة سوريا” 13 محاولة انتحار من بداية العام الجاري منها 5 محاولات فاشلة، وسط تحذيرات من ارتفاع معدلات الانتحار هذا العام مقارنة بالأعوام الماضية، حيث سجل الفريق العام الماضي 88 حالة منها 33 محاولة فاشلة، كما سجل 25 حالة في 2021، و19 حالة في 2020.
وسُجلت غالبية محاولات الانتحار عبر تناول حبوب الفوسفيد السامة والتي تباع بالصيدليات البيطرية، حيث يفقد المنتحر حياته بعد مضي دقائق، وهذه الحبوب تستعمل في المنازل لحفظ المؤن لكنها باتت مؤخرا وسيلة للانتحار ما دعا السلطات المعنية لتشديد الرقابة عليها.
العاملة في مجال الصحة النفسية سمر المحمد تؤكد أنها تمكنت من إنقاذ حياة صديقتها التي قررت الانتحار، وذلك عبر جلسات للدعم النفسي.
وفي حديث للجزيرة نت تقول سمر “بعد وفاة زوج صديقتي دخلت في مرحلة اكتئاب شديد حتى وصلت لمرحلة أن فقدت الكثير من وزنها، وبعدها بدأت تعاني من هلوسات وأصوات في مخيلتها تطالبها بإنهاء حياتها كونه ليس هناك معيل لها ولأطفالها”.
وأضافت “بعد اكتشاف حالتها قمت مع فريق الدعم النفسي بتكثيف الجلسات لها، كما تم تأمين وظيفة تقدم دخلا جيدا لها وإرسالها ضمن جولات ميدانية لتأمين دمجها بالمجتمع، ما تسبب في إعادتها لحياتها الطبيعية”.
الدعم النفسي
إبراهيم (55 عاما) مُهجر من منطقة ريف إدلب الجنوبي إلى مخيماتها منذ عام 2019، شنق نفسه نهاية العام الماضي، ويقول شقيقه إن الأسباب ليست الفقر وسوء الوضع المعيشي، كما تحدث الكثيرون من أصدقائه أو مواقع التواصل، بل عانى من مرض الاكتئاب الذهاني الذي يصل بالمريض إلى حد الانتحار.
وأضاف في حديثه للجزيرة نت أن “إبراهيم عانى من صعوبات كثيرة وأبرزها وفاة ابنه جراء القصف من قبل النظام السوري قبل عدة أعوام، ثم انفصال ابنته عن زوجها، وبعدها تهجيره من منزله -وهو متعلق بشكل كبير بقريته- ما تسبب بإصابته بالمرض”.
الأخصائي النفسي عبد الله الزيدان يؤكد أن الوضع الاقتصادي هو السبب الأساسي في معظم حالات الانتحار شمال سوريا، بالإضافة إلى الأسباب العاطفية والخلافات الزوجية عند الإناث، بالإضافة إلى صعوبات الدراسة عند بعض المراهقين.
وفي حديثه للجزيرة نت، أوضح الزيدان أنه لا يوجد مرض نفسي محدد يدفع الشخص للانتحار، ولكن هناك عدة أسباب تدفع الشباب للاكتئاب. والاكتئاب هو من الأمراض العصبية التي تصيب الأشخاص أصحاب المزاج المتدني، وبالتالي الانعزال عن الواقع والشعور بالحزن.
وحول تعامل فرق الدعم النفسي الاجتماعي مع ظاهرة الانتحار، أوضح الزيدان أن هناك مستويات عدة مثل المستوى الوقائي عبر التوعية داخل المدارس والمساجد والمنشورات التثقيفية، وذلك قبل الانتقال للمستوى الثاني المتمثل في العلاج النفسي والطبي.
وأكد أن أصحاب المحاولات الفاشلة يخضعون لجلسات الدعم النفسي، بالإضافة إلى أن البعض بحاجة إلى مراجعة الطبيب خاصة إذا دخلوا في مراحل الاكتئاب الشديد، مطالبا بتكاتف المجتمع عن طريق العائلة والأصدقاء.
مسؤولية مشتركة
محمد العثمان وهو يعمل في مجال الصحة المجتمعية في عدة مراكز للدعم النفسي، يرى أن عمليات الانتحار تعود أغلبها للضغوط النفسية من جهة أو إدمان الحبوب المخدرة كحبوب الكبتاغون التي زاد انتشارها في السنوات الأخيرة بين الشباب.
ويضيف العثمان، في حديثه للجزيرة نت، “نحاول علاج هذه الحالات من خلال الحث على افتتاح مراكز لمعالجة الإدمان، كذلك إطلاق حملات للتحذير من خطر الحبوب المخدرة ودورها في الانتحار، والبحث عن الحالات التي تواجه ضغوطا نفسية وحالات اكتئاب ومعالجتها”.
بدوره، يقول عبد الله الشيباني، وهو يحمل ماجسيتر في الشريعة والقانون، إنه “لا شك في أن الانتحار من عظائم الذنوب وكبائرها”، مضيفا أنه لا يجوز الإقدام على الانتحار تحت أي ظرف من الظروف مهما كثرت الابتلاءات وعظمت المصائب واستيأس المرء من الحياة، والمؤمن بالله وقضائه وقدره لا يفكر مجرد تفكير في الانتحار، بل شأن المؤمن الرضا بما قدر الله، والتسليم له سبحانه”.
وفي حديثه للجزيرة نت، أكد الشيباني أن للتوعية الإيمانية الدور الأعظم في مواجهة ظاهرة الانتحار ومخاطبة الفئة الشابة، خصوصا ممن يملأ الفراغ قلوبهم بما يعزز الإيمان في قلوبهم، مشددا على أن المسؤولية مشتركة وتقع على عاتق المؤسسات الدينية والحكومية لمعالجة الأسباب التي تؤدي إلى التفكير في الانتحار.