القاهرة- في الوقت الذي رحّب فيه مجلس الأمن الدولي بمبادرة المبعوث الأممي إلى ليبيا عبد الله باتيلي الرامية إلى إجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية صيف العام الجاري، أثيرت تساؤلات حول أسباب رفض القاهرة الخطة الأممية ووصفها بـ”المؤسفة والمبهمة”، بعد أن دعت مصر مرارًا إلى ضرورة التسوية وإجراء الانتخابات في أقرب فرصة.
وبعد سنوات من الأزمة الليبية، ألقى باتيلي حجرا في مياه السياسة الليبية الراكدة، عبر مبادرة قال إنه لا يستبعد وضع خريطة طريق لها بحلول يونيو/حزيران المقبل، محذرا من أن يقود استمرار الوضع الحالي لتقويض وحدة ليبيا أرضًا وشعبًا.
وفور عرض المبادرة، جاءت مواقف دولية مرحبة من واشنطن وباريس وبريطانيا وعواصم أخرى، فيما كان الموقف المصري معارضًا، إلى جانب رفض روسي تجلى في كلمة مندوب موسكو خلال جلسة سابقة لمجلس الأمن.
ولترجمة أبعاد الرفض المصري للخطة الأممية، سعت الجزيرة نت إلى استقراء أسبابه وتداعياته من خبراء ومعنيين، وهل يعود ذلك لموقف مصر من حكومة طرابلس ومجلس النواب الليبي، أم هناك أبعاد أخرى، وما الرؤية المصرية لحل الأزمة الليبية؟
-
لماذا ترفض مصر مبادرة باتيلي؟
يتفق خبراء مصريون -تحدثت معهم الجزيرة نت- على أن “مبادرة باتيلي تزيد من تعقيدات المشهد الليبي، كما أن مهمة المبعوث الأممي في ليبيا أصبحت مشكوكا فيها وتتجاوز التوافق الليبي، وتمثل قفزة على المؤسسات الشرعية في ليبيا، بما قد يفضي لعودة افتعال المعارك”.
من جانبه، شدّد السفير عزت سعد مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق، على أن “باتيلي أصبح جزءًا من المشكلة ولم يعد جزءًا من الحل، كما أن مبادرته تزيد من تعقيد وتدهور الوضع في ليبيا”.
وأوضح سعد -وهو المدير التنفيذي للمجلس المصري للشؤون الخارجية (هيئة دبلوماسية مستقلة)- أن صياغة المبادرة “مثيرة للسخرية”، ولا يصح أن تُعتمد بشأن أزمة شديدة التعقيد تراوح مكانها منذ سنوات، وبالتالي فإن ردود الفعل شهدت انقسامًا داخليًا شديدًا حولها.
وأضاف أن المبادرة تتحدث عن تشكيل لجنة رفيعة المستوى لتنظيم الانتخابات، تضم زعماء القبائل والأطراف الأمنية الفاعلة. وبحسب سعد، فإن “تلك الأطراف الأمنية هي المليشيات التي تلجأ إليها الأطراف المختلفة في ليبيا”.
كما أن مبادرة باتيلي، وفق الدبلوماسي المصري، تعد خطوة سلبية تفاقم الوضع في ليبيا، وتعمّق الانقسام الموجود داخل الأطراف الداخلية.
المربع صفر
بدوره، يرى الخبير في العلاقات الدولية والأمن القومي المصري اللواء محمد عبد الواحد، أن الأزمة الليبية هي الأسوأ حظا بين أزمات المنطقة؛ بسبب تعقدها الشديد والتدخلات الخارجية.
وقال إن هذا النوع من المبادرات يحدث انقسامًا يعيدنا إلى المربع صفر، “فمن جهة كان المرحّبون: حكومة طرابلس وبعض الفصائل الموالية لها ومعظمها إسلامية، بالإضافة إلى أمراء الحرب الموجودين في الغرب الليبي، ممن لديهم مصالح من بقاء عبد الحميد الدبيبة على حساب المصلحة الوطنية. ومن جهة أخرى، ثمة رفض من منطقة الشرق”.
وفي تفاصيل المبادرة، أوضح أن تكوين لجنة رفيعة المستوى، يتجاهل تماما وجود مؤسسات شرعية في الدولة، وأهمها مجلس النواب، مشيرًا إلى أن الدعوة إلى ضرورة إجراء انتخابات تشريعية ورئاسية خلال 2023 يتجاهل أهم عناصر الأزمة، وهو السلاح غير الشرعي الموجود لدى بعض الفصائل خارج سلطة الدولة، ومنها مليشيات ومرتزقة تجعل أي حكومة عاجزة عن القيام بمهمتها.
وبرأي عبد الواحد، فإن المبادرة تتجاهل الفساد وإهدار المال العام الليبي، ووجود ضغوط وقوى أجنبية أثرت على الانتخابات سابقًا، “وجميعها تجاوزات تعرقل التوصل لحلول توافقية بين الشرق والغرب، وستؤدي لمزيد من الانقسام حتى داخل مجلس الدولة نفسه”.
وذهب إلى القول إن “مهمة المبعوث الأممي أصبحت مشكوكا فيها، ويراها البعض مسيّسة بالكامل”، موضحًا أنها متوافقة تمامًا مع الرؤية الأميركية، وبالتالي فإن التأييد الغربي للمبادرة جزء منه سياسي بحت وتصفية حسابات مع روسيا المتواجدة في المنطقة وتدعم الشرق الليبي.
واستشهد عبد الواحد بأخطاء سلوكية ارتكبها باتيلي، حين عقد قبل أيام مؤتمرا في طرابلس، قال فيه إن مجلس النواب قد انتهت صلاحيته ويجب تجديده، وهو ما يعدّ خطوة في إطار تعقيد الأمور والتدخل في الشأن الليبي.
تتجاوز التوافق
وفيما اتفق مع طرح المحلل السابق، يشير الخبير في العلاقات الدولية بمركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية (حكومي) أحمد سيد أحمد، إلى أن بلاده ترفض المبادرة باعتبارها لا تمثل خطوة في الاتجاه الصحيح نحو دفع العملية السياسية وإنهاء الأزمة وإجراء الانتخابات، وكونها تتجاوز المؤسسات الشرعية التي يمثلها البرلمان الليبي في طبرق.
وتوقّع عدم نجاح تجربة باتيلي في ظل الاستقطاب الداخلي والخارجي، مشددًا على أن التوافق الليبي هو الضمانة الوحيدة لإجراء الانتخابات والقبول بنتائجها.
-
هل يؤثر الرفض المصري على التحركات الأممية؟
يقول السفير عزت سعد إن التباين في المواقف ينعكس سلبا على ليبيا، وبصرف النظر عن ردود الفعل الخارجية المختلفة حول الوضع الليبي، يبقى المهم رؤية الأطراف الداخلية من المبادرة وانعكاساتها على مصالحها.
وبناء عليه، يشير سعد إلى أن بلاده لا تراهن على أحد، بل يجب أن يكون الحل ليبيًّا، إضافة إلى أن لدى القاهرة مخاوف من وجود “شبهة عبث خارجي” في الشأن الليبي.
وحذّر من أن مصر ترى في البيان الرئاسي لمجلس الأمن حرصَ أطرافٍ على بقاء الحال في ليبيا على ما هو عليه، بما فيه من فساد وإهدار للثروة، وأن هموم تلك الأطراف هي استمرار ضخ النفط وزيادة عائداته للخارج في إطار البحث عن بدائل للغاز والنفط الروسي.
وفي السياق ذاته، يعتقد سيد أحمد أن التحركات الأممية والدولية في ليبيا ستواجه بتحديات كبيرة لعدة أسباب، أولها غياب الإجماع حول هذا المسار، بعد تجاهله من الكيانات السياسية الموجودة حاليا.
والسبب الثاني، وفق المتحدث، يتمثل في وجود مصلحة في حشد دول الجوار، خاصة مصر وتونس والجزائر، وبالتالي فإن الدور المصري يمثل أهمية كبيرة لتقريب وجهات النظر خاصة في المسار الدستوري، وفي الحفاظ على وقف إطلاق النار بين الشرق والغرب المفعل منذ أكتوبر/تشرين الأول 2020.
وعطفًا على ذلك، بحسب سيد أحمد، فإن رسالة مصر تعبّر عن مخاوف حقيقية من انحراف المسار السياسي إلى آخر من شأنه أن يزيد من تعقيد الأمور، ويطيل أمد الأزمة، وقد يشعل ويفتعل المعارك مجددًا.
وبدلا من تشكيل لجنة أممية، يقول المحلل إن مصر تطالب بتنفيذ القرارات الأممية المتعلقة بإخراج المرتزقة والأجانب الذين يعتبرون العقبة الأساسية أمام الانتخابات، ويؤثر وجودهم سلبًا على ليبيا وأمن مصر القومي.
-
لماذا كانت مصر أول مرحب وداعم للتعديل الدستوري الثالث عشر في ليبيا؟
لعبت مصر دورا بارزا في تسهيل المحادثات بين مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة، حيث أشاد مجلس الأمن بالتقدم التدريجي المحرز بشأن الإطار الدستوري للانتخابات والتعديل الثالث عشر للإعلان الدستوري، لجعل نظام الحكم سلطة تشريعية وسلطة تنفيذية يرأسها رئيس منتخب.
وفي هذا الصدد، يشير اللواء عبد الواحد إلى أن بلاده تعلم أن إطالة أمد الصراع تعقّد الموقف وتزيد الأطماع الخارجية، مشددًا على ترحيب بلاده بأي دستور يغطي الأطر المؤسسية لاستكمال الانتخابات، عبر حل ليبي ليبي يعجل بالاستقرار.
بدوره، قال المحلل السياسي سيد أحمد إن هناك مصلحة مصرية في التعجيل بالمسار الدستوري، مستشهدًا باستضافة بلاده اجتماعات هذا المسار كجهة محايدة توفر البيئة لإنجاحه دون فرض رؤيتها أو شروطها أو صيغة معينة عليه.
وأشار إلى أن المسار الدستوري الليبي شهد تقدمًا كبيرًا في القاهرة باعتراف دولي وأميركي، وكان يضمن حدًا أدنى على الأقل من التوافق بين الأطراف المختلفة، ويمثل ضمانة لإجراء الانتخابات ونتائجها لوجود قاعدة دستورية يقبل بها الجميع.
-
هل يزيد موقف مصر من مبادرة باتيلي الفجوة مع حكومة طرابلس؟
يقول اللواء عبد الواحد إن على حكومة الدبيبة النظر بموضوعية بحتة للصالح الليبي، وترسيخ المؤسسات وتأسيس دولة وطنية جديدة، وعليها أن تأخذ الرؤية المصرية محل الاعتبار، وتفتح قنوات اتصال مع القاهرة.
كما دعاها إلى الاعتراف بكافة الفصائل الأخرى الموجودة على الساحة، وأن تكون هناك مواءمات توافقية وتسويات سياسية، و”ليس الاستقواء بالغرب واستغلال السيولة الدولية” لتحقيق مصالحها على حساب المصالح الوطنية.
-
ما انعكاسات رفض مصر على مصالحها وتفاعلها مع المؤيدين للمبادرة؟
يرى الخبير السياسي سيد أحمد أن الرفض المصري لا يعني قطيعة أو عدم تواصل مع الأطراف الدولية المختلفة المؤيدة للمبادرة أو الفاعلة، وإنما توضيح المخاطر من المضي قدمًا فيها.
وتوقع أن يكون مصير المبادرة الفشل كما في المبادرات السابقة، كونها لا تعكس التوافق الليبي حتى لو أجريت الانتخابات، لأنها لم تعالج الأطر الدستورية والسياسية من البداية.
ويعتقد أن مصر بقنواتها وقدراتها ستتواصل مع الأطراف الفاعلة والمؤيدة للمبادرة، لتوضيح حقيقة الرفض ومخاوفه وأبعاده وتداعياته على المشهد الليبي، مشددًا على ضرورة وجود حراك دولي في ظل حالة الجمود المسيطرة.