بيروت- أثارت العقوبات الأميركية التي فرضها مكتب مراقبة الأصول الأجنبية التابع لوزارة الخزانة الأميركية (OFAC) على الأخوين اللبنانيين العاملين بقطاع النفط ريمون وتيدي رحمة وكيانات تجارية يملكانها موجة كبيرة من التساؤلات التي ضاعفت تعقيدات المشهد اللبناني وربطتها بأبعاد سياسية، نظرا لكونهما من كبار المستثمرين النافذين الذين تربطهم علاقة وطيدة بقوى وأحزاب وشخصيات سياسية بارزة في لبنان والإقليم أيضا.
وعللت وزارة الخزانة فرض العقوبات على خلفية استفادة الأخوين من “الفساد العام”، واتهمتهما “باستخدام الثروة والنفوذ للانخراط في ممارسات فاسدة تسهم بالانهيار. وبينما يواجه اللبنانيون ضائقة اقتصادية وأزمة طاقة حادة وخللا سياسيا غير مسبوق، استخدم الشقيقان رحمة إمبراطوريتهما التجارية وعلاقاتهما السياسية لإثراء أنفسهما على حساب المواطنين”.
وأدرجت على لائحة العقوبات 3 شركات يمتلكانها، واحدة مقرها الإمارات هي “زي آر إنرجي” (ZR ENERGY DMCC)، واثنتان مقرهما لبنان تتغذى كل منهما من شركة “زي آر القابضة” (ZR Group Holding SAL)، وهي شركة تعمل بمجالات الطاقة والاتصالات والطيران.
وقال البيان إن الأخوين استخدما شركاتهما داخل لبنان وخارجه بغية الفوز بالعقود الحكومية عبر مناقصات شديدة الغموض، وأعطى مثالا عن حصولهما سنة 2017 على عقد لاستيراد الوقود لمصلحة مؤسسة كهرباء لبنان نيابة عن وزارة الطاقة بعملية وصفها البيان بالفاسدة، متحدثا عن استخدامهما وقودا ملوثا ألحق أضرارا كبيرة بمحطات توليد الكهرباء اللبنانية.
من هما الأخوان رحمة؟
وإذا كان اسم الأخوين يرتبط بأكثر الملفات فسادا، وهي الكهرباء وصفقات البواخر التي أغرقت لبنان بالخسائر وديون بمليارات الدولارات، فإن الشبهات حولهما تصاعدت في عام 2020، مع كشف فضيحة عرفت باسم “الفيول المغشوش” أو “البنزين المغشوش”.
وحينذاك، جرى توقيف ممثل شركة “سوناطراك” الجزائرية في لبنان طارق الفوال، بقضية تسليم كهرباء لبنان شحنة تتضمن عيوبا بنوعية الوقود، خصوصا أن سوناطراك منذ 2006 ترتبط باتفاقية مع وزارة الطاقة لتزويدها بوقود الديزل والبنزين، عبر شركتين إحداهما شركة “زي. آر إنيرجي” اللبنانية. وحينئذ ادعت النائبة العامة التمييزية في جبل لبنان القاضية غادة عون على نحو 21 متهما، بينهم تيدي رحمة.
كما انخرط الشقيقان في قطاع المصارف، إذ وقعت مجموعتهما “زي آر القابضة” عام 2014 اتفاقا مع بنك “فرعون وشيحا” اللبناني، يقضي باستحواذها على حصة 80% من الأسهم، ونشطت المجموعة في مجال تملّك الأسهم والحصص في شركات داخل لبنان وخارجه، وكان لديها استثمارات بالعراق في مجال الاتصالات بالشراكة مع “أورانج” الفرنسية، وسبق أن أبرموا عقودا مع الجيش الأميركي لتوريد الطعام إلى جنوده بالعراق.
وورد اسمهما سابقا في تحقيقات صحفية حول شبهات فساد بكردستان العراق، والعديد من الاتفاقيات والصفقات، ويحكى عن انخراطهما في تهريب المحروقات بعد الأزمة إلى الداخل السوري بتسهيلات حصلوا عليها من شخصيات لبنانية على علاقة بالنظام السوري.
واللافت في سيرة الشقيقين سياستهما البراغماتية في توطيد العلاقة مع عدد كبير من الأحزاب والشخصيات النافذة، وحتى المتخاصمة. فمن جهة، يشتهر آل رحمة بعلاقتهم الوطيدة مع زعيم تيار المردة سليمان فرنجية، وسبق أن دافع عنهم في قضية “البنزين المغشوش” إذ قال “آل رحمة أصدقائي منذ 40 سنة، وريمون رحمة صديقي وأخي ونسافر معا ولا أخجل من ذلك وضميري مرتاح”.
كذلك حكي عن ارتباط الشقيقين بعلاقة مع زعيم التيار الوطني الحر جبران باسيل وفريقه السياسي الذي يدير وزارة الطاقة منذ أكثر من 15 عاما، إضافة إلى علاقتهما بزعيم حزب القوات اللبنانية سمير جعجع وظهورهما معه في العديد من المناسبات الشعبية والسياسية، وشخصيات سياسية أخرى.
عصا العقوبات
عمليا، ليست المرة الأولى التي تفرض فيها واشنطن عقوبات على كيانات وشخصيات لبنانية. وإذا كانت تاريخيا تدور في فلك المرتبطين بحزب الله اللبناني من كيانات ومؤسسات وأفراد بحجة “محاربة الإرهاب، وأذرع إيران بالمنطقة”، فإنها منذ 2020 أخذت مسارا دراماتيكيا أكثر شمولية في لبنان، ووضعه محللون في إطار توجيه السهام السياسية داخليا وإقليما.
ويصادف توقيت العقوبات التي فرضتها واشنطن مع زخم فرنسي تجلى قبل أيام في استقبال فرنجية للبحث بمسألة ترشيحه، وحراك عربي وخليجي تسهيلا لإنجاز استحقاق الانتخابات الرئاسية، بعد اللقاء الخماسي الأخير حول لبنان في باريس الذي جمع ممثلين عن أميركا وفرنسا ومصر والسعودية وقطر.
وبالتوقيت السياسي، تذكر هذه العقوبات بأخرى فرضتها سنة 2020 على الوزيرين السابقين علي حسن خليل ويوسف فنيانوس بتهمة الفساد وتقديم الدعم المادي لحزب الله، مما أسهم بإطاحة المبادرة الفرنسية التي حملها الرئيس إيمانويل ماكرون عقب انفجار المرفأ.
كما فرضت عقوبات في العام نفسه على جبران باسيل بتهم فساد ووضعته على اللائحة السوداء استنادا إلى قانون “ماغنيتسكي”، فتفاقم أيضا تعقيد الصراعات السياسية.
وقبل أيام فقط، فرضت واشنطن العقوبات على 6 أشخاص، لدورهم بإنتاج مخدر “الكبتاغون” وتصديره، بينهم اثنان من أقارب رئيس النظام السوري بشار الأسد، وتاجر المخدرات اللبناني نوح زعيتر الملاحق من السلطات اللبنانية، وحسن دقو الذي يدير شبكة لبنانية سورية.
وهنا، يقول أستاذ القانون والعلاقات الدولية رئيف خوري إن العقوبات تهدف لتجميد الأصول المحتملة تحت الولاية القضائية الأميركية، ومنع الكيانات المدرجة على اللائحة السوداء من الوصول إلى الأسواق العالمية.
وفي متابعته لسيرة الأخوين رحمة، يقول خوري -للجزيرة نت- إن ما وصفه باحتكارهما لسوق النفط والمحروقات في لبنان زاد منذ عام 2019 مقابل صفقات جانبية مع جهات نافذة بوزارة الطاقة، ونافذين سياسيين يسهلون أعمالهما بتهريب المحروقات إلى دمشق، ومع بعض الجهات الأمنية.
وهذا المثلث السياسي الإداري الأمني، وفق تحليل خوري، سمح بازدهار أعمال الأخوين إلى درجة الإثراء غير المشروع طوال سنوات.
الرئاسة والدلالات السياسية
سياسيا، قرأت أوساط لبنانية العقوبات بأنها رسالة لقطع طريق وصول سليمان فرنجية إلى سدة الرئاسة بعد عودته من باريس، وكان أول من أعلن دعم ترشيحه الثنائي حزب الله وحركة أمل.
ويدرج خوري رسائل واشنطن في 3 مستويات:
داخليا، رفض كلي لتبنّي مرشح حزب الله. إقليميا، توجيه رسالة لإيران أن ترشيحه غير مقبول، مقابل دعم الموقف العربي الخليجي الرافض لترشيح فرنجية. دوليا، رسالة إلى ماكرون الذي خالف نصيحة مساعديه مقابل إرضاء حزب الله وإيران بدعم ترشيحه.
من جانبها، لا توافق المحللة السياسية روزانا بومنصف على هذا الربط، وتقول -للجزيرة نت- إن العقوبات الأميركية سياسة قائمة بذاتها، ولو أرادت استهداف ترشيح فرنجية لفرضتها عليه مباشرة، كما سبق أن فعلت مع باسيل.
وترى المحللة أن العقوبات مرتبطة مباشرة بالصراعات حول ملفات الفساد، مضيفة “إذا كانت هناك رسالة سياسية، فهي لكل الأطراف السياسية المنغمسة علنا أو سرا بإبرام صفقات الأخوين منذ سنوات، وتربطهم شراكات وعلاقات مصلحية معهما”.
ومضى نحو 6 أشهر على الشغور الرئاسي بعد نهاية ولاية الرئيس الأسبق ميشال عون، بينما فشل البرلمان على مدار 11 جلسة في إنجاز الاستحقاق، كما يمتنع رئيسه نبيه بري من الدعوة لجلسة جديدة قبل تأكده بأنها ستفضي إلى انتخاب رئيس.
وتقول بومنصف إن الملف الرئاسي قد يلقى زخما في المرحلة المقبلة من أطراف اللقاء الخماسي، وهو ما تجلى أخيرا بالزيارة التي قام بها وزير الدولة في وزارة الخارجية القطرية محمد بن عبد العزيز الخليفي إلى لبنان.
وتجد أن كل تضييق على فرص فرنجية يعزز، ولو مرحليا، حظوظ قائد الجيش جوزيف عون، لارتباطه بعلاقة وطيدة بواشنطن، وقبوله من عدة أطراف عربية. وتدعو بومنصف إلى ترقب موقف حزب الله لاحقا من قضية دعم فرنجية، بعد التطورات الأخيرة والتفاهمات التي تلوح بالمنطقة بين السعودية وكل من سوريا وإيران.
من جهته، يرى خوري أن فرنسا تثبت هشاشة مبادراتها مع كل خطوة ضغط أميركية باتجاهها. ويقول إن المعادلة إقليما ودوليا صارت مركبة، لأن أهمية اسم الرئيس المقبل وموقعه السياسي مقرونة بأهمية قدرته على تنفيذ الإصلاحات وحماية لبنان من سقوط وشيك، ليس من مصلحة أحد، لا داخليا ولا خارجيا.