تتسارع التطورات التي تشير إلى عودة الفلبين إلى واجهة التوتر الإقليمي في المنطقة الواقعة بين الصين وجنوب شرق آسيا، بصورة تعيد الاهتمام والحضور الأميركي بالأرخبيل الفلبيني، وسط تصاعد التوتر بين واشنطن وبكين.
وفي عام 1992، تراجع بشكل كبير الوجود الأميركي العسكري في الفلبين مع انتهاء فترة اتفاقية القواعد العسكرية لعام 1947، وتعذر التوصل إلى اتفاق حول شروط ومطالب تجديدها.
اليوم يختلف المشهد، ففي 4 أبريل/نيسان الجاري اختتمت تدريبات “سلاكنيب” التي امتدت لنحو 20 يوما بمشاركة نحو 3 آلاف جندي أميركي وفلبيني، وتميزت باستخدام راجمات صواريخ “هيمارس إم 142” الأميركية، وغير ذلك من الأسلحة الثقيلة والمتطورة، وسيتجدد التدريب في الربع الثالث من العام الجاري.
تدريبات موسعة
كما تترقب الفلبين انطلاق تدريبات “باليكتان” المشتركة مع الولايات المتحدة خلال الأسبوع الثاني من الشهر الجاري وحتى نهايته، ويمتد موسمها الثاني حتى يونيو/حزيران المقبل، بمشاركة 12 ألف جندي أميركي و5 آلاف جندي فلبيني، إضافة إلى مشاركة 100 جندي أسترالي، وهو ما يعتبر أكبر حشد تدريبي عسكري -بحري وجوي وبري- من البلدين منذ 4 عقود.
تأتي هذه التدريبات ضمن تسارع ملحوظ في تنفيذ “اتفاقية تعزيز التعاون الدفاعي” بين الفلبين والولايات المتحدة، التي وصفها بيان للخارجية الفلبينية الثلاثاء الماضي بأنها تؤكد التزام مانيلا وواشنطن بتحالفهما الذي يمتد لعقود، وهي الاتفاقية التي وقعت عام 2014 لترسيخ اتفاقية “القوات الزائرة” التي وقعت عام 1998.
وتسمح تلك الاتفاقيات للقوات الأميركية باستخدام قواعد الجيش الفلبيني لتخزين المعدات وللقيام بتدريبات مشتركة، وقد حدد القصر الرئاسي الفلبيني الاثنين الماضي مواقع إضافية متوزعة على جزر الفلبين، تضاف إلى 5 مواقع أخرى سبق أن سُمح للجيش الأميركي باستخدامها.
واعتبر بيان الخارجية أن مواقع التعاون العسكري الأميركي الفلبيني “إستراتيجية للجيش الفلبيني وسعيه لتقوية قدراته لحماية الشعب والوطن وتعزيزا لمصالحنا الوطنية”.
ويأتي تحديد هذه القواعد بعد نحو شهرين من موافقة الرئيس فرديناند ماركوس على زيادة عدد المواقع العسكرية التي سيسمح للجيش الأميركي بالاستفادة منها.
وبحسب بيان مشترك لوزارة الدفاع والجيش الفلبيني الأربعاء الماضي، فإن الحضور الأميركي سيعزز قدرات الفلبين على حماية مصالحها الوطنية، وسيسهم في تقوية الإمكانات الدفاعية الجماعية في المنطقة، والاستجابة السريعة للكوارث، وحماية حقوق الصيادين وحياتهم في مياه البلاد، ويمتد الأمر إلى حماية الممرات البحرية في بحر غرب الفلبين وكذا المياه الشرقية للأرخبيل.
الأقرب إلى تايوان
يأتي هذا فيما تراقب دول جنوب شرق آسيا التمدد الصيني في بحر جنوب الصين، ويتنازع عدد منها مع بكين السيادة في جزره ومياهه، وتجد الفلبين نفسها في موقع متقدم جغرافيا إلى الشمال من منطقة دول آسيان، ومن ورائها ماليزيا وإندونيسيا وفيتنام.
وكان لافتا بعد عقود من التعامل مع الصراعات الداخلية، أن يعلن قائد الجيش الفلبيني الجنرال روميو برونير منتصف الشهر الماضي أن جيش بلاده يعمل على إعادة توجيه اهتمامه من مواجهة التحديات الأمنية الداخلية، كالحركات المسلحة والشيوعيين جنوبي البلاد، إلى التعامل مع التحديات الدفاعية الإقليمية بفعل تصاعد حدة التوتر في بحر جنوب الصين، مضيفا أن هذا الأمر يستلزم تغييرا في أسلوب التفكير من العمليات الأمنية المحلية إلى “الدفاع الإقليمي”.
الصين، وعلى لسان المتحدثة باسم الخارجية ماو نينغ، حذرت الثلاثاء الماضي من أن الولايات المتحدة تصعّد التوتر العسكري وتهدد الأمن والاستقرار الإقليميين باتفاقيتها الجديدة مع الفلبين، على اعتبار قرب تلك القواعد من بحر جنوب الصين أو ما يسميه الفلبينيون بحر غرب الفلبين، خاصة أن قاعدة “كاغيان سانتا آنا” التي تقع في أقصى شمال الفلبين، تبعد 400 كلم فقط عن سواحل تايوان.
هذا الموقع المتقدم يربطه البعض بتصريحات للرئيس الفلبيني في 12 فبراير/شباط الماضي، حيث قال إنه “من خلال موقعنا الجغرافي، إذا ما كان هناك صراع مستقبلي في تلك المنطقة، فمن الصعب جدا تخيل سيناريو لن تتورط فيه الفلبين بشكل أو بآخر، ولذلك أذكّر الجميع دائما بأن كاوشيونغ في تايوان تبعد 40 دقيقة بالطائرة من بلادنا، لذلك نشعر أننا في موقع متقدم، وهذا الأمر قيد البحث والدراسة”.
ويرتبط الفلبينيون مع واشنطن باتفاقية تاريخية -أكثر أهمية من غيرها آنفة الذكر- إذا ما اندلع أي صراع، وهي اتفاقية الدفاع المتبادل لعام 1951 التي تُلزم كلا الطرفين بالدفاع عن حليفه إذا ما وقع اعتداء أو هجوم على أراضيهما أو مصالحهما في منطقة المحيط الهادي الذي يطل البلدان عليها.
مركز دعم لوجستي
في هذا السياق، يقول الصحفي الفلبيني ماني ماغاتو إن “الولايات المتحدة لا تدخل حروبا دون استعداد مسبق، فهي تموضع مؤنها ومعداتها وقواتها العسكرية في منطقة قريبة من نقطة الصراع، قبل الشروع في الهجوم على القوات المعادية”.
وأشار ماغاتو إلى أن الدروس المستفادة من الحروب الأميركية السابقة، تدفعها للوصول إلى المزيد من المواقع لتوزيع قواتها ومعداتها وقطع الغيار والمؤن في حال اندلاع نزاع في المنطقة الواقعة بين المحيطين الهندي والهادي، مقدرا أنه إذا ما ساد التوتر فعلى الفلبين أن تتوقع انتشار مزيد من القوات الأميركية ومعداتها ومؤنها في الأشهر المقبلة.
ووفقا للمعلن، لا يتعلق الأمر بقواعد عسكرية تضم أعدادا كبيرة بشكل دائم، فهذا ما قد يكون غير مسموح به دستوريا كما يقول الرئيس ماركوس، بل هي تدريبات وحضور شبه دائم ومتبادل للقوات الأميركية في القواعد التسع بالجزر الفلبينية.
هذا التواجد -من حيث عدد الجنود والمعدات والسفن- سيكون دون ما كانت عليه الحال خلال حرب فيتنام، من تردد سفن الأسطول الأميركي السابع في عقدي الستينيات والسبعينيات على قاعدة حوض سوبيك التي بناها الإسبان عام 1885.
واستفاد الأميركيون من حوض سوبيك حتى عام 1992، باستثناء سنوات الاحتلال الياباني للفلبين (1942-1945)، وهو ما ينطبق أيضا على قاعدة كلارك الجوية شمال غرب البلاد، والتي تبعد نحو 60 كلم شمال غرب العاصمة مانيلا في جزيرة لوزون، وشيدتها الولايات المتحدة عام 1903 وظلت تستخدمها حتى عام 1991، باستثناء سنوات الحكم الياباني.
لا أحد يتمنى الحرب
ورغم التحشيد العسكري المتصاعد، فإن التصريحات الرسمية تحاول إظهار أنه لا أحد يتمنى الحرب، على الأقل من الناحية الاقتصادية والإنسانية، في بلد يقترب عدد سكانه من 115 مليون نسمة هذا العام، وهذا ما أكدته تصريحات صحفية للرئيس ماركوس، حيث قال “علينا أن نتفاعل مع الواقع الجيوسياسي المتغير حولنا، وهذه إحدى الطرق التي يمكننا اتباعها، وأعتقد أنه من الواضح أن الاستجابة ليست عسكرية، لأنه لا أحد يؤمن بأن ذلك حلا لأي من المشاكل أو والتحديات التي نواجهها، بل يجب أن يكون حلا سياسيا دبلوماسيا”.
وأضاف ماركوس “لكن من مصلحتنا الحفاظ على أمن الممرات البحرية عبر بحر جنوب الصين، فهي ليست مهمة لنا فحسب بل لكل دول العالم، ولذلك فممرات آمنة هو ما نأمل أن نضمنه، وهذه الخطوات ليست تجاه الصين، علينا أن نكون حذرين لا محرضين، لا أحد يريد الحرب، ولا بد أن نجد حلا لتسوية الاختلافات والمزاعم المتضاربة من خلال عملية سياسية لا بطريق عسكري”.