واشنطن ـ خلال الحملة الانتخابية الأميركية عام 2000، انتقد المرشح الرئاسي آنذاك جورج دبليو بوش بشدة فكرة الرئيس بيل كلينتون عن “الشراكة الإستراتيجية” مع الصين، واقترح بدلا من ذلك أن الولايات المتحدة والصين “منافسان إستراتيجيان”.
وبعد شهرين من بدء حكم جورج بوش، وفي الأول من أبريل/نيسان 2001، اصطدمت طائرة مقاتلة صينية بطائرة استطلاع أميركية من طراز “EP-3” قبالة سواحل الصين، مما أجبر الطيارين الأميركيين على القيام بهبوط اضطراري على الأراضي الصينية.
واحتجز الصينيون الطاقم الأميركي 11 يوما، وفتشوا بعناية الطائرة المتطورة قبل تسليمها، واتهمت واشنطن الطيار المقاتل الصيني بالتهور، وطالبت بكين بالاعتذار، وهو ما لم يحدث.
وقد عزز هذا الحادث وجهة نظر إدارة بوش بأن الصين هي الخصم الرئيسي التالي لأميركا، لكن في صباح يوم 11 سبتمبر/أيلول 2001 اختطفت عناصر تنتمي لتنظيم القاعدة 4 طائرات، اصطدمت 3 منها بمركز التجارة العالمي في نيويورك والبنتاغون في فرجينيا، مما أدى إلى مقتل نحو 3 آلاف شخص، ومن ثم تحول انتباه أميركا فجأة وبالكامل إلى “الحرب على الإرهاب” التي كانت من تبعاتها احتلال أفغانستان ومن بعدها العراق.
وانتشر ما يقترب من نصف مليون جندي أميركي في الشرق الأوسط، وتم تنحية التحدي الذي تشكله الصين جانبا لما يقرب من عقدين.
الانشغال بالحرب
مثلت الحرب الأميركية التي شنتها عقب تعرضها لهجمات 11 سبتمبر/أيلول 2001، والتي غزت على إثرها أفغانستان قبل نهاية العام، ولاحقا العراق في مارس/آذار 2003، علامة فارقة في تاريخ صعود الصين للحاق بالولايات المتحدة، بل منافستها في المجالات التكنولوجية والعسكرية والاقتصادية.
وشهد عام 2001 انضمام الصين إلى منظمة التجارة العالمية في الوقت الذي استعدت فيه واشنطن لبدء حروبها التي لم تنته بعد. فكان دخول بكين إلى المنظمة التجارية مع العالم واستغلالها رخص الأيدي العاملة الماهرة والضخمة فيها، بجذب ملايين المستثمرين؛ عوامل دفعت الصين لتنطلق وتنجح في تحقيق معدلات نمو متوسطها 8% خلال 20 عاما الماضية.
على النقيض، أعلنت الولايات المتحدة “حربها العالمية ضد الإرهاب” التي جرّتها إلى حربين مكلفتين في أفغانستان والعراق، خرجت من الأولى عام 2020 بعد اتفاق مع حركة طالبان، ولا تزال لها قوات في العراق.
وتشير دراسة بحثية مشتركة صدرت عن جامعة “براون” المرموقة إلى وصول تكلفة الحروب منذ هجمات سبتمبر/أيلول حتى نهاية العام المالي 2023 إلى 6.4 تريليونات دولار، فضلا عن التكلفة البشرية ومئات الآلاف من الضحايا الأفغان والعراقيين الأبرياء.
وأدرك الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما أهمية إنهاء التورط الأميركي والانشغال بالشرق الأوسط والانتباه لمخاطر الصعود الصيني، وتبنّي إستراتيجية “التوجه نحو آسيا” بغرض تحقيق التوازن الإستراتيجي في منطقة المحيطين الهادي والهندي.
وسعى أوباما إلى الحد من نشر القوات الأميركية في العراق من أجل تسهيل وزيادة نشر القوات الأميركية في منطقة آسيا والمحيط الهادي لمواجهة الصين عند الحاجة، إلا أن ظهور تنظيم الدولة عرقل هذه التصورات.
فرصة إستراتيجية للصين
قدمت حرب العراق “فرصة إستراتيجية” للصين لتطوير قوتها، بينما كانت واشنطن مشتتة بشدة، ويرى العديد من الإستراتيجيين الصينيين أن حرب واشنطن على الإرهاب وغزوها لأفغانستان والعراق منح الصين عقدين من حرية التركيز على تنميتها دون تحديدها واستهدافها كتحد ذي أولوية للولايات المتحدة.
ومثلت حرب العراق استنزافا مؤلما أدى إلى تعثر موارد الولايات المتحدة المادية، فضلا عن تلطيخ مصداقيتها وقيادتها على مستوى العالم، وفي الوقت نفسه تمكنت الصين من الاستفادة من الفرصة لتخصيص وقتها وبناء قوتها بصورة أسرع مما كان يتصوره قادة الصين.
ونقلت حرب العراق قدرا هائلا من القوة العسكرية الأميركية من آسيا إلى الشرق الأوسط، جعل من المستحيل على الولايات المتحدة مضاهاة النمو العسكري الصيني في شرق آسيا.
لم تكن الولايات المتحدة لتنتظر ما يقرب من عقدين آخرين لتعريف الصين على أنها التحدي الإستراتيجي الأكثر أهمية والانخراط بقوة فيما يسميه الرئيس جو بايدن الآن “المنافسة الشديدة” مع الصين لو لم تحتل الولايات المتحدة العراق ومن قبلها أفغانستان.
زيادة التهديدات الصينية
قال وزير الدفاع الأميركي الجنرال لويد أوستن الأسبوع الماضي “إن الصين هي الدولة الوحيدة التي لديها الإرادة المتزايدة والقدرة على إعادة تشكيل منطقتها والنظام الدولي ليناسب تفضيلاتها الاستبدادية، لذا اسمحوا لي أن أكون واضحا: لن ندع ذلك يحدث”.
وهيمنت مكافحة الإرهاب على إستراتيجية الأمن القومي لواشنطن حتى مجيء الرئيس السابق دونالد ترامب للحكم عام 2016، وبدأت عملية إعادة التقويم في عام 2017، وبحلول عام 2021 عادت منافسة القوى العظمى، بخاصة مع الصين، إلى الظهور واستبدلت مكافحة الإرهاب كأولوية قصوى لواشنطن.
ولم تعرف الصين التورط في أي نزاعات عسكرية منذ انتهاء نزاع حدودي مع فيتنام عام 1979، وإن كانت تتبنى إستراتيجية توسع في بحر جنوب الصين، أجّجت خلافات على الحدود البحرية مع إندونيسيا، والفلبين، وفيتنام، وماليزيا، وتكرر الصين تهديداتها لتايوان بضرورة العودة للوطن الأم إما طوعا أو قسرا لو تطلب الأمر.
الصين الفائزة تجاريا
بعد 20 عاما من الغزو الأميركي للعراق، أصبحت الصين على رأس شركاء بغداد التجاريين بخاصة في مجال الطاقة، وتضاعفت التجارة بين العراق والصين إلى ما يقرب من 70 ضعفا عما كانت عليه قبل الغزو، إذ كانت التجارة بين الدولتين عام 2002 تبلغ قرابة 517 مليون دولار، ووصل حجم التجارة الثنائية بين الدولتين إلى 38 مليار دولار بحلول نهاية عام 2022، في الوقت الذي بلغ فيه إجمالي التبادل التجاري بين الولايات المتحدة والعراق ما يقرب من 12 مليار دولار العام الماضي.
وفقدت الولايات المتحدة قدرا كبيرا من السلطة الأخلاقية بسبب غزو العراق، وما قامت به واشنطن من احتجاز متهمين دون محاكمة، وقيامها بالتعذيب المباشر أو عن طريق حلفائها، وسهّل ذلك لبكين الرد على الاتهامات الأميركية بانتهاكاتها لحقوق الإنسان بحجة “أننا نفعل ما فعلتموه أنتم من قبلنا”.
وبعد 20 عاما من غزو العراق، تظهر استطلاعات للرأي أجرتها شبكة “الباروميتر” العربي بجامعة برنستون أن الصين تحتل المرتبة الأولى في قائمة الدول الأكثر تفضيلا عند العراقيين، حيث عبر أكثر من نصف العراقيين (54%) عن وجهة نظر إيجابية جدا أو إلى حد ما تجاه الصين، في حين نظر ثلث العراقيين فقط (35%) بصورة إيجابية إلى الولايات المتحدة.
ويرى 48% من العراقيين أن سياسات الرئيس الصيني شي جين بينغ كانت جيدة جدا أو جيدة لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، في حين تحصل سياسات الرئيس الأميركي جو بايدن على تفضيل 32% فقط من العراقيين.