القاهرة- كان يمكن لإعلان عن سيارة مستعملة للبيع أن يمر مرور الكرام مطلع أبريل/نيسان الحالي لولا جملة من الملاحظات أبداها خبير تقنيات المعلومات هشام عبد الغفار عن مضمون الإعلان وملابساته، وهي الملاحظات التي أثارت جدلا واسعا خلال الأيام الماضية، قبل أن ينتقل الجدل إلى طرح أسئلة عن مكانة صحيفة الأهرام الحكومية ومستقبل الصحف المطبوعة عموما.
ملاحظات عبد الغفار انصبت على نوعية الإعلان نفسه، فهي المرة الأولى تقريبا التي تنشر فيها الإهرام إعلانا لبيع سيارة مستعملة في صدر صفحتها الأولى في المكان المخصص لشركات كبرى وبأسعار مرتفعة.
لم يفوت عبد الغفار ملاحظات أخرى تتعلق بمضمون الإعلان، وهو المالك لسيارة شبيهة لها، طارحا عدة تساؤلات كانت حديث مواقع التواصل الاجتماعي كونها مثيرة للدهشة على حد تعبير مغردين أن مضمون الإعلان هو شفرة سرية لإيصال رسالة ما من جهة ما مجهولة إلى مجهولين.
نفي وتوضيح
ورغم تلك الإثارة فإن آخرين طرحوا افتراضات منطقية تتعلق بكون الإعلان مجرد محاولة من شركة دعاية مثلا لقياس مدى انتشار الإعلانات وأثرها في صحيفة الأهرام.
كما قوبلت هذه التغريدات الساخرة بسخرية مشابهة ممن رأوا في الاهتمام بالإعلان ومحاولة تحميله ما لا يحتمل “فراغا وتفاهة”، مؤكدين أن الأمر “مجرد إعلان كان من حظ صاحبه أن يحدث كل هذا الصدى”.
مصدر صحفي في مؤسسة الأهرام كشف للجزيرة نت أن الإعلان أثار بالفعل حالة من الدهشة داخل المؤسسة عقب تداوله في مواقع التواصل الاجتماعي، مشيرا إلى أن ثمنه يبلغ نحو 40 ألف جنيه (1300 دولار تقريبا)، نزولا من 54 ألف جنيه (نحو 1800 دولار) في حال تمتع حامله بميزة الخصم.
وقال المتحدث إن الادعاء بوجود شفرات في الإعلانات ليسا جديدا على المؤسسات الإعلامية، إذ تخصص مغردون في محاولات تفسير كلمات وأغان في بعض الإعلانات، باعتبارها تشير إلى وقائع تحدث في المستقبل، وذلك في مساع من هؤلاء المغردين لجلب المزيد من المتابعين لصفحاتهم بنشر مثل تلك “الغرائبيات”.
الجدل الواسع دفع رئيس تحرير الأهرام علاء ثابت إلى التوضيح على حسابه الشخصي بموقع فيسبوك، مبديا دهشته من الخيال الواسع في التعليقات على الإعلان.
وأوضح ثابت أن “أحدا ممن تناولوا الإعلان بالتعليق لم يتوقف عند حقيقة أن السيارة مملوكة لمواطن مصري، وأن الأهرام أبدا لم ولن تتورط في نشر إعلان “مجهول النسب”، فالبيانات الشخصية لصاحب الإعلان ورخصتا السيارة والقيادة التي تؤكد ملكيته لها موجودة لدى الأهرام، ومن هنا تنتفي مسألة الشفرات، فمن يرسل رسالة مشفرة يتعامل بشكل آخر، ليس من بينه الإعلان عن هويته”.
واستثمر ثابت حالة الجدل ليؤكد على “أهمية وعظمة الأهرام واهتمام قرائها بل ومنتقديها بكل ما ينشر فيها حتى لو كان إعلانا”.
عراقة الأهرام وتحديات الواقع
بعيدا عن تلك التأويلات والافتراضات التي حمل بعضها سخرية لاذعة لفت معلقون إلى جانب أعمق في المسألة يتعلق بما وصفه بعضهم بـ”تردي” أحوال الصحيفة الأعرق في البلاد حتى أنها باتت تقبل مضطرة ما كانت ترفضه باستعلاء قبل سنوات من إعلانات منخفضة السعر.
بدوره، يقول رئيس تحرير مجلة الأهرام الاقتصادي سابقا أنور الهواري إن الإعلان دل على تراجع وضع الصحيفة على أجندة المعلنين، موضحا أن إعلانا كهذا يفترض أن يوضع على مساحة صغيرة بإحدى الصفحات المبوبة، ولو كان بالأهمية التي تجعله على مساحة أكبر لكان من المعتاد ألا يخرج من الصفحات الداخلية على أي حال.
وفي حديثه للجزيرة نت، أكد الهواري أن تقاليد الصحيفة العريقة كانت تسعى للحفاظ على قيمتها في أذهان القراء والمتابعين عبر المنع الحاسم لنشر إعلان بالصفحات الأولى عن أي شيء قليل القيمة المادية لا يهم الفئات العليا في المجتمع، فضلا عن بقية المعايير المحددة، ليصير من الصعب للغاية أن يتسرب إعلان لا تنطبق عليه تلك المحددات للركن الأهم في الصحيفة، وهو الركن الأيسر من الصفحة الأولى.
الهواري يعتبر ما جرى واقعة غير مسبوقة، لكنها شديدة الدلالة على ما تردى إليه وضع الصحيفة عموما، من حيث تراجع اهتمام المعلنين بها، والذي يأتي انعكاسا لتراجع المستوى التحريري للصحيفة التي باتت عناوينها الرئيسية “المانشيت” تحمل أنباء منخفضة القيمة والأهمية.
حديث الهواري توافق معه الكاتب الصحفي جمال غيطاس قائلا إن “الخواء الإعلاني والتحريري كارثة سببها موجة عاتية من التصغير وتجريف القيمة وفقد الاعتبار تعرضت لها المؤسسة خلال السنوات العشر الماضية عن عمد وسبق إصرار في كثير من الأحيان”.
وتابع غيطاس -وهو رئيس تحرير سابق لمجلة لغة العصر التابعة لمؤسسة الأهرام- أن المسؤولين الذين تولوا أمور المؤسسة الصحفية العريقة عجزوا عن مجابهة التحديات وتطويقها على النحو المطلوب، تارة بسبب المعضلات التي تتعرض لها صناعة الصحافة، كالأزمات الاقتصادية، والتغييرات الكبرى في صناعة الصحافة فنيا ومهنيا، وفي تفضيلات الجمهور، وظهور النشر الإلكتروني بمختلف أشكاله.
وفي منشور له بصفحته الشخصية تابع “وتارة أخرى بسبب تعاملهم مع الوضع السياسي القائم وطبيعة العلاقة بين السلطة والصحافة في هذه المرحلة، بصورة تضع ضمان الاستمرار في المنصب مقدما على الالتزام بالأداء التحريري والإعلاني والإداري والمالي الموضوعي المستقل الذي تحتاجه المؤسسة بشدة”.
ارتفاع الوعي
بدوره، لا ينظر الأمين العام للمجلس الأعلى للصحافة قطب العربي للأمر من زاوية انخفاض مصداقية وتأثير معظم الصحافة القائمة في مصر حاليا فحسب، ولكن ينظر إليه باعتباره كذلك ارتفاعا لمنسوب الوعي لدى الجمهور بعد انصراف الناس إلى الإعلام المصري بالخارج، أو لصالح صفحات التواصل الاجتماعي.
وأوضح العربي في حديثه للجزيرة نت أن الصحف القومية تورطت طوال أعوام في نشر تناقضات التصريحات الرسمية، دون قدرة منها على تفنيد الأرقام والتصريحات أو حتى مناقشتها بمنطقية وعقلانية، مما جعلها ضحية لتلك التناقضات التي سرعان ما يكشف زيفها جمهور التواصل الاجتماعي بسرعة وعمق وكثافة.
وعن التعليقات التي انتشرت سريعا تجاه نوعية الإعلان ومساحته ومضمونه، رأى العربي أنها دالة بأكثر من وجه، فهي تعبير عن دقة وذكاء ملاحظات المتابع، مع انتقاد للوضع عموما يتراوح بين الساخر والمنطقي، لكنها في مجملها كاشفة عن مدى الوعي والعمق لدى الجمهور، خصوصا في الأعمار المتوسطة والشابة، في مقابل الضحالة والهشاشة لدى الإعلام الرسمي العجوز.
أزمة الصحف الحكومية
يأتي هذا استمرار للجدل بشأن مستقبل الصحف الحكومية، خاصة مع تخوف صحفيين من تصفية مؤسسات الصحف الحكومية وتسريح واستثمار أصولها الثابتة، سواء لسداد ديونها المتراكمة أو استغلالها لدعم ميزانية الدولة.
وحسب إحصائيات غير رسمية، فإن ديون المؤسسات الصحفية القومية تتخطى حاجز 20 مليار جنيه (الدولار= 30.90 جنيها)، تشمل ضرائب وتأمينات وجمارك، فضلا عن ديون بنكية.
ووفق آخر بيانات رسمية، كشفت الهيئة الوطنية للصحافة أن مديونية المؤسسات الصحفية تبلغ 13.9 مليار جنيه، أما وزير الدولة للإعلام السابق أسامة هيكل فأعلن أمام مجلس النواب في 2021 أن الديون بلغت 22 مليار جنيه.
وأعلن رئيس الهيئة عبد الصادق الشوربجي -في تصريحات صحفية- أن الحكومة تدعم رواتب العاملين في المؤسسات الصحفية القومية بنحو 33%، كما تدعم مصروفات المؤسسات بنحو 25%.
وحسب الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، بلغ عدد الصحف في مصر 76 صحيفة قومية وحزبية وخاصة.
ولا يوجد حصر دقيق أو رسمي لعدد العاملين في الصحف القومية، لكن بعض التقارير الإعلامية تقدر عددهم بنحو 30 ألفا ما بين صحفي وإداري.
ويكرر الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي الحديث دائما عن تضخم الجهاز الحكومي الذي يبلغ نحو 6 ملايين موظف، مؤكدا أن الدولة لا تحتاج سوى مليون فقط، لكنها لن تتجه إلى التسريح.
وأعطى قانون الهيئة الوطنية للصحافة -الذي صدّق عليه الرئيس السيسي- في أغسطس/آب الماضي الحق للهيئة في إلغاء ودمج المؤسسات والإصدارات الصحفية القومية.