واشنطن- صورة أمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني علي شمخاني ومستشار الأمن القومي السعودي مساعد بن محمد العيبان، وبينهما ووانغ يي أكبر دبلوماسي صيني، التي نشرت مع الإعلان عن التوصل لاتفاق إعادة العلاقات الدبلوماسية السعودية الإيرانية، سببت هزة كبيرة لأروقة السياسة الأميركية.
فاتفاق إيران والسعودية على إعادة العلاقات الدبلوماسية، في صفقة توسطت فيها الصين، يطلق -وفقا لمراقبين- العديد من الرسائل مفادها أن الدور الأميركي في منطقة الشرق الأوسط آخذ في الأفول، وأن الصين بات لها دور في قضايا كانت بعيدة للغاية عن مجال نفوذها، فضلا عن صدمة كبيرة للاصطفاف الجيوسياسي للشرق الأوسط.
ففي الوقت الذي انشغلت فيه إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن بمحاولة توسيع عمق ونطاق اتفاقات أبراهام (للتطبيع) من خلال المساعدة في إنشاء بنية أمنية جديدة بالشرق الأوسط في مواجهة ما تراه من تهديدات تشكلها الطائرات بدون طيار والصواريخ الإيرانية، تحركت الصين في هدوء للتقريب بين أهم دولتين بالخليج السعودية وإيران.
ولم تلتفت واشنطن جيدا لمغزى تزايد الدور الصيني في المنطقة والذي بلورته زيارة هامة للرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي لبكين الشهر الماضي، وذلك عقب زيارة الرئيس الصيني شي جين بينغ إلى السعودية في ديسمبر/كانون الأول الماضي، بالإضافة إلى أن بكين أصبحت خلال الأعوام الأخيرة الشريك التجاري الأول للرياض بتعاملات تخطت قيمتها 87 مليار دولار العام الماضي، كما أصبحت الصين الشريك التجاري الأول لإيران بتعاملات تخطت قيمتها 17 مليار دولار.
رؤية أميركية قديمة
مثّل اندلاع الثورة الإيرانية عام 1979 صدمة لواشنطن ولترتيباتها الأمنية بالمنطقة بعد خسارة الشاه محمد رضا بهلوي، الحليف القوي للولايات المتحدة، وكان إعلان الرئيس الأسبق جيمي كارتر في خطاب حالة الاتحاد عام 1980 أن “أي محاولة من قوة خارجية للسيطرة على الخليج العربي بمثابة اعتداء على المصالح الحيوية الأميركية” رسالة جادة ومباشرة لمن يفكر في الاقتراب عسكريا من الخليج.
ورغم مرور أكثر من 40 عاما، يُعد هدف بناء نظام أمني جماعي خليجي تُشرف عليه واشنطن من أهم الأولويات الأميركية في المنطقة، خاصة مع استمرار لعب الخليج دورا محوريا في منظومة الطاقة العالمية.
وخلال كلمة له أمام منتدى المنامة في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، أعلن كبير مسؤولي الشرق الأوسط بمجلس الأمن القومي الأميركي بريت ماكغورك أن بلاده تعمل على بناء بنية تحتية متكاملة للدفاع الجوي والبحري بالشرق الأوسط، في وقت تتصاعد فيه التوترات مع إيران المتهمة بزعزعة الاستقرار عبر شن هجمات على سفن بمياه الخليج.
وفي نفس المنتدى، أعلن قائد القيادة الأميركية الوسطى الجنرال مايكل كوريلا أن فرقة عمل تقودها واشنطن ستنشر أكثر من 100 سفينة مسيرة بالمياه الإستراتيجية لمنطقة الخليج بحلول العام المقبل لدرء التهديدات البحرية الإيرانية.
ويرى كبير الباحثين بمؤسسة كارنيغي للسلام الدولي كريم سجادبور أن هجوم إيران عام 2019 على منشآت شركة أرامكو أظهر للرياض أن الولايات المتحدة “لا تستطيع حمايتها من إيران” ونظرا لنفوذ الصين الهائل على إيران واهتمامها بالاستقرار الإقليمي، تأمل السعودية على الأرجح أن يوفر لها هذا الاتفاق درعا صينيا يحقق الاستقرار في المنطقة.
في حين اعتبر كبير مستشاري مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات ريتشارد غولدبرغ أن التحرك السعودي جاء “نتيجة مباشرة للسياسة الأميركية، فالرياض تتحوط ضد رفع العقوبات والعودة إلى الاتفاق النووي، وضد انسحاب الولايات المتحدة من المنطقة من خلال الدخول في هيكل جديد للشرق الأوسط بوساطة صينية”.
لاعب مهم
ومن جهته، اعتبر مدير “مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات” مارك دوبويتز أن “عودة العلاقات الإيرانية السعودية نتيجة للوساطة الصينية خسارة كبيرة للغاية للمصالح الأميركية” مشددا على أنه يدل على أن السعوديين “لا يثقون في واشنطن لدعمهم، وأن إيران تراها فرصة لإنهاء عزلتها الدولية، ويؤسس للصين باعتبارها قوة رئيسية في الشرق الأوسط”.
أما الدبلوماسي الأميركي المتقاعد تشاس فريمان فيقول “إذا صنعت فراغا دبلوماسيا، فسوف يملأه شخص ما، هذا في الأساس ما حدث لسياسة الولايات المتحدة في الخليج”.
ولسنوات طويلة اختزلت الصين علاقتها مع الشرق الأوسط في الشؤون التجارية، إلا أنها تبدو الآن مرتاحة للخوض في الشؤون السياسية، وتدل الصفقة الجديدة على أن كلا من السعودية وإيران تريدان استرضاء الصين، ليس لأنها القوة العظمى الجديدة في المنطقة بالضرورة، بل كونها لاعبا هاما لا يمكن تجاهله.
وفي سلسة تغريدات على منصة تويتر، أكدت آنيل شلين خبيرة شؤون السياسة الأميركية بالخليج في معهد كوينسي بواشنطن أن “توسط الصين في الصفقة أمر مهم، إذ يظهر الدور الذي يمكن أن تلعبه في تعزيز شرق أوسط يتم تحديده بشكل أكبر من خلال التعاون والتجارة، وأقل من خلال الصراع ومبيعات الأسلحة، كما كان معتادا في ظل هيمنة الولايات المتحدة”.
ونصحت الخبيرة واشنطن بضرورة العمل على تعزيز السلام والازدهار لشعوب المنطقة، وليس فقط مبيعات الأسلحة والمساعدة الأمنية.
الوجود الصيني
يأتي الاتفاق في الوقت الذي ترى فيه دول الخليج أن الولايات المتحدة تنسحب ببطء من الشرق الأوسط، تاركة فراغا في السلطة تسده الصين.
وخلال رحلته إلى الشرق الأوسط التي قادته إلى إسرائيل وفلسطين والسعودية في يوليو/تموز الماضي، أعلن الرئيس الأميركي أن بلاده “لن تبتعد وتترك فراغا كي تملأه الصين أو روسيا أو إيران” وغاب عن بايدن ـوفقا لمراقبين- حقيقة أن الشرق الأوسط أصبح مجالا مفتوحا يرحب بشدة بالدور المتزايد للصين في أغلب دوله.
ونما وجود الصين في الشرق الأوسط بشكل كبير خلال السنوات الأخيرة في جميع مجالات الاقتصاد والدفاع والدبلوماسية ومظاهر القوة الناعمة.
وترى بكين حاليا أن مصالحها بالشرق الأوسط تُخدم بشكل أفضل من خلال التركيز على التجارة والابتعاد عن الشؤون الأمنية والسياسية. ومع ذلك، فإن دول هذه المنطقة تجر الصين بشكل متزايد إلى القضايا السياسية والأمنية، وهو ما دفع بالصين إلى لعب دور أمنى أكثر بروزا كما بدا ذلك بوضوح في الوساطة بين طهران والرياض.