باريس- يدخل إضراب عمال النظافة في باريس ضد تعديل قانون المعاشات التقاعدية أسبوعه الثالث، وسيستمر -حسب المنظمين- إلى 27 مارس/آذار الجاري، مع توقعات بتجديده؛ وهو ما أدى إلى تراكم غير مسبوق للقمامة في شوارع العاصمة الفرنسية، حيث تمتد أكياس القمامة أمتارا ينتهي بعضها بالحرق بسبب الاشتباكات المتكررة بين المتظاهرين وعناصر الشرطة.
ولم يستغرق الأمر طويلا لتشويه صورة إحدى أجمل المدن في العالم وأكثرها شهرة؛ ففي الأسبوع الأول تراكم أكثر من 5 آلاف طن من النفايات غير المجمعة في الشوارع، ليصل هذا الرقم إلى ذروته ويتجاوز 10 آلاف طن، وفق آخر بيانات لبلدية باريس ومقر الشرطة.
أزمات لا تنتهي
وفي حديثه للجزيرة نت، أكد السكرتير الفدرالي للنقابات العمالية “سي جي تي” للخدمات العامة فرانسوا ليفارتوفسكي أن الإضرابات مستمرة إلى حين عدول الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عن قانونه المثير للجدل، مؤكدا أن إضراب عمال النظافة مستمر حتى الاثنين القادم.
وأوضح ليفارتوفسكي أن الإضراب يشمل قطاعات أخرى، من بينها مواقع الحرق والتخزين ومراكز الفرز أو المعالجة، التي أصبحت شبه متوقفة حاليا.
وترى النقابات العمالية أن هذه الإضرابات تمثل ورقة ضغط سياسي على حكومة ماكرون، وتراهن على استمرارها وتفعيلها بشكل دوري، خاصة في مجالات الطاقة (محطات الطاقة النووية والغاز والوقود) والنقل (محطات المترو والقطارات والمطارات)، فضلا عن مصانع النسيج وغيرها.
ويبدو أن كيفية إدارة السلطات المحلية جمع النفايات في العاصمة تسهم بشكل بسيط في تخفيف حدة الأزمة الحالية؛ إذ تُكلف الخدمات العامة أو الشركات الخاصة بجمع 50% تقريبا من النفايات في باريس، في حين يقوم عمال النظافة في القطاع العام بإدارة الباقي، وفق السكرتير الفدرالي للنقابات العمالية.
شركات خاصة
ومنذ فجر الاثنين الماضي، وصلت شاحنات تابعة لشركات خاصة لجمع النفايات في بعض المناطق، لكنها تبقى غير كافية لحل المشكلة، وتعمل بوتيرة بطيئة جدا.
وقالت كتالينا (وهي مشرفة على بناية في الدائرة 16، التي تقع ضمن المناطق الراقية في باريس) إن الشارع يبدو نظيفا اليوم، لكنه لم يكن كذلك طوال الأسبوعين الماضيين، مضيفة “انتشلت شركة خاصة القمامة مساء الثلاثاء الماضي، لكن يجب أن نشكر السوق الأسبوعي الذي أجبرهم على المجيء والقيام بعملهم”، حسب حديثها للجزيرة نت.
في حين قالت أغاث (صاحبة متجر للورود في المنطقة نفسها) إن “رائحة فضلات الأسماك بعد انتهاء سوق الثلاثاء لا تحتمل، وهو ما دفعنا نحن وأصحاب متاجر أخرى هنا إلى الضغط على البلدية لإرسال شاحنة بأقصى سرعة”.
جدير بالذكر أن تقريرا نشره ديوان المحاسبة في فرنسا كشف العام الماضي عن أن السلطات المحلية تخصص 1% فقط من التكلفة الإجمالية للخدمة العامة لإدارة النفايات، بما في ذلك عمليات الفرز وإعادة التدوير.
من جانبها، قالت كولومب بروسيل نائبة العمدة والمسؤولة عن النظافة -في تغريدة على تويتر- إن جمع النفايات بقي “معطلا في جميع أحياء باريس”، وأضافت أنهم يولون الأولوية للتدخلات المتعلقة بالسلامة والمتعلقة بتنظيف أسواق المواد الغذائية وإزالة أكياس القمامة على الأرض وسلامة ممرات المشاة.
إلا أن بعض العمال في الشركات الخاصة شاركوا أيضا في الإضراب منذ بدايته، مثل موظفي شركة “بيزورنو” (Pizzorno) المسؤولة عن جمع النفايات في الدائرة 15، ولمواجهة هذا النقص وجهت الشركة النداء للعمال المؤقتين وآخرين من جنوب فرنسا.
لكن عند العبور من هذه الدائرة الواقعة قرب منطقة برج إيفل، يمكن ملاحظة أن عددا هائلا من أكياس القمامة لا تزال مكدسة على أرصفة الشوارع وتنتظر دورها لانتشالها.
مناطق مهمشة
بدوره، كشف عمدة الدائرة 17 جيفري بولار عن أن مدينة باريس وقّعت عقدا مع مزود خدمة خاص لجمع النفايات ليلا في مناطق معينة متضررة من الإضراب، لكن يبدو أن بعض المناطق في العاصمة لا تزال عرضة للتهميش الصارخ لأسباب قد تكون مرتبطة بالأهمية السياحية أو ربما الطبقية المجتمعية.
فعند المشي على الأقدام في الدائرة 17 -على سبيل المثال- ستلاحظ أنها منقسمة إلى مشهدين متباينين: فالشوارع القريبة من جادة الشانزيليزيه التي تندرج ضمن المناطق الراقية خالية أو شبه خالية من القمامة، أما في الجهة الأخرى من الدائرة التي تتسم بأحياء أكثر شعبية فرائحة النفايات المتراكمة والممتدة تنبعث لأمتار عديدة.
يقول عبد القادر (صاحب محل لبيع المواد الغذائية) “عادة أنقل نفايات المتجر إلى منطقة مخصصة لذلك، لكن شاحنات النفايات لم تمر من هنا منذ أسبوعين لانتشال قمامة سكان البناية؛ وهو ما يؤثر على عملي بشكل مباشر، إذ أصبح بعض الزبائن يفضلون شراء المنتجات من أماكن أخرى”، حسب حديثه للجزيرة نت.
ومن المفارقة أن منطقة باريس -التي يطلق عليها اسم “الحي العربي” لأن بها عددا كبيرا من الجالية العربية، وهي من المناطق المهمشة في العاصمة وتشهد نسبة عالية من البطالة- أصبحت شبه خالية من أكياس القمامة لأنها ببساطة تندرج ضمن الدوائر التي يديرها القطاع الخاص.
تداعيات صحية
في سياق متصل، نبه رئيس بلدية الدائرة 6 جان بيير ليكوك عمدة باريس آن هيدالغو في رسالة الجمعة الماضي إلى “المخاطر الصحية” المرتبطة بعدم جمع النفايات المتراكمة ومعالجتها.
لكن رئيس اتحاد الأطباء في فرنسا الدكتور جون بول هامون أكد أنه لا توجد أي عواقب صحية وخيمة بسبب النفايات، خاصة أن الجو بارد أو معتدل، مبينا أن هناك “تضخيما للوضع، وهو أمر لا داعي له”.
وفي حديثه للجزيرة نت، أضاف هامون أن البعض أعرب عن خوفه من انتشار الجرذان ونقلها الأمراض، “وهو احتمال غير وارد ولا يمثل أي خطر على الصحة لأن الفئران لن تهاجم المارة في الشارع”، على حد تعبيره.
لكن أكاديمية الطب حذرت منذ الصيف الماضي من الخطر الذي تمثله هذه القوارض على صحة الإنسان بشكل عام.
يذكر أن فرنسا تقع في متوسط الدول الأوروبية من حيث إنتاج النفايات، إذ ينتج كل فرنسي ما يقرب من 6 أطنان من النفايات المنزلية سنويا.
وذكر عدد من الأطباء الآخرين -عبر وسائل إعلام فرنسية- أن النفايات العضوية يمكن أن تنتج غازات سامة، مثل الكبريت والرصاص وثاني أكسيد الكربون، لأنها تبدأ التحلل بعد عدة أيام. كما يصبح انتشار البكتيريا في الجو أمرا سهلا عبر الهواء في حالة الرياح القوية أو ارتفاع درجة الحرارة أو الرطوبة.
من جهته، أوضح رئيس اتحاد الأطباء في فرنسا أن الخطر الوحيد في الوقت الحالي يكمن في حرق النفايات أثناء المظاهرات، مشيرا إلى أن “الروائح الكريهة غير مقلقة لأن القمامة مكونة أساسا من مخلفات منزلية ومواد بلاستيكية ولا تحتوي على مواد سامة”.
وأضاف “أعتقد أنه في حال عدم قدرة الحكومة على معالجة الوضع كما يجب، فإنها قد تضطر إلى دعوة الجيش للتدخل كما تفعل دائما”.