موسكو- لم يشكل انضمام فنلندا لحلف الناتو مفاجأة بالنسبة لروسيا، فالأمر كان مسألة وقت، بعد إعلان هلسنكي في الخامس من يونيو/ حزيران الماضي، بالتزامن مع ستوكهولم، تقديمهما طلب الانضمام للحلف، لتدير بذلك فنلندا، وفقا لمراقبين، ظهرها للعلاقات الخاصة التي كانت تربطها بروسيا على مدى عقود.
وكنتيجة لواقع جيوسياسي جديد، أصبح بين حلف الناتو وروسيا حدود مشتركة جديدة، فمعظم شمال غرب روسيا سيكون على حدود الحلف من بحر البلطيق إلى بحر بارنتس، وبلغة الأرقام، سيتضاعف طول الحدود بين روسيا وخصومها الأطلسيين من 1215 كيلومترا إلى 2600 كيلومتر، بعد خروج فنلندا عن الحياد وانضمامها للناتو.
ويكفي إلقاء نظرة واحدة على الخريطة لفهم التأثير السياسي والعسكري بل وحتى النفسي على روسيا جراء انضمام البلد الإسكندنافي الشمالي إلى التحالف، والحدود التي أصبحت أكثر اتساعا وتضم مناطق ذات كثافة سكانية منخفضة من مورمانسك إلى سانت بطرسبرغ.
ويبدو أن محاولات هلسنكي التأكيد على أن هذه الخطوة ليست موجهة ضد أي طرف، لم تجد صدى لها في موسكو، فقد اعتبرت وزارة الخارجية الروسية في بيان أن انضمام فنلندا إلى حلف الناتو يعني “تخليها بشكل نهائي عن هويتها الذاتية واستقلالها”.
بل إن وزارة الخارجية الروسية ذهبت أبعد من ذلك، إذ وعدت باتخاذ تدابير مضادة ستعتمد على ما إذا كانت البنية التحتية العسكرية للتحالف ستظهر في فنلندا.
عدم الانحياز
وكانت فنلندا خططت للانضمام إلى الناتو مع السويد، والتخلي عن سياسة عدم الانحياز التي انتهجتها مع الكتل العسكرية لعقود (هلسنكي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وستوكهولم منذ الربع الأول من القرن الـ19)، وحتى فبراير/شباط 2022، حيث لم يوافق السكان ولا السلطات في هاتين الدولتين على المشاركة الكاملة في الأحلاف العسكرية.
ولكن بعد بدء الحرب الواسعة النطاق في أوكرانيا تغير الوضع، والآن ومع الانتهاء من جميع الإجراءات اللازمة، بات من الممكن أن يأخذ علم فنلندا مكانه مع 30 علما آخر أمام مقر الناتو في بروكسل.
ولم تقرر المجر وتركيا بعد التصديق على عضوية السويد في الحلف، إذ تطالب أنقرة بموقف أكثر صرامة من ستوكهولم حيال حزب العمال الكردستاني، وتسليم أكثر من 100 ناشط كردي حصلوا على حق اللجوء في البلاد.
ضم أم انضمام؟
يختار الخبير الروسي في الشؤون الدولية، رولاند بيجاموف، تعبير الضم وليس الانضمام لوصف عضوية فنلندا الرسمية في حلف شمال الأطلسي “الناتو”.
ويؤكد بيجاموف في حديث للجزيرة نت أن الدول الغربية بقيادة الولايات المتحدة مارست ضغوطا على فنلندا للانضمام إلى الحلف، موضحا أنه “في ضوء الأوضاع الجيوسياسية الحالية، فإن فنلندا، ببساطة، ليست على استعداد للرفض، بل قد تصل الأمور، خلافا لذلك، إلى حد فرض عقوبات مالية واقتصادية ضدها”.
ويتابع بيجاموف أن انضمام فنلندا إلى حلف الناتو يشكل بحد ذاته انتهاكا للاتفاقات التي استمرت لسنوات عديدة مع موسكو، والتي أعطت هلسنكي تفضيلات اقتصادية واسعة، ساهمت في “تغذية” المستوى المعيشي المرتفع للفنلنديين.
بموازاة ذلك، ستساهم فنلندا الآن بصفتها دولة في الناتو في توسيع قدرات الحلف، لا سيما فيما يتعلق بجمع المعلومات الاستخباراتية وتعزيز القوة الجوية.
ويتوقع بيجاموف عدم توقف الضغوط على روسيا جراء الخطوة الفنلندية عند هذا الحد، فخليج فنلندا سيصبح في وضع صعب، نظرا إلى أن دولا “غير صديقة” ستسيطر عليه، وسيؤثر ذلك بالتالي، بشكل خاص، على عمل الموانئ الروسية في برونكا وأوست لوغا وبريمورسك وفايسوتسك.
نوايا قديمة
في الوقت ذاته، ينتقد بيجاموف ما يصفها بـ”شماتة” بعض الأصوات الليبرالية، بأن روسيا دخلت أوكرانيا لمنع توسع الناتو، ولكن نتيجة لذلك، تلقت توسعا للحلف، الذي أصبح الآن يقترب أكثر من أي وقت مضى، واضعا هذه المواقف في سياق تشويه للحقائق، لأن رغبة هلسنكي في التقارب مع الناتو بدأت في تسعينيات القرن الماضي.
أما في الجانب العسكري، فيرى الخبير العسكري العقيد احتياط في الجيش الروسي فيكتور ليتوفكين، أن توسع الناتو في الاتجاه الإسكندنافي يشكل مسألة حساسة للغاية بالنسبة لروسيا، ففنلندا تقع مباشرة على الحدود الروسية، وانضمامها (وربما لاحقا السويد) إلى الحلف، سيؤدي إلى مراجعة السياسة العسكرية الإستراتيجية لموسكو ردا على التهديد الناشئ.
ويتابع أن روسيا أدركت على مدار سنوات طويلة أن هذا سيحدث يوما ما، رغم الخلفية التاريخية “الإيجابية” عندما كانت فنلندا جزءا من الإمبراطورية الروسية، ولكن “يمكنك دائما توقع طعنة جار جيدة في الظهر”، حسب تعبيره.
ويذهب ليتوفكين إلى القول إنه في حالة حدوث صراع عسكري في الاتجاه الإسكندنافي، فإن موسكو لن تتردد باتخاذ رد متكافئ لتحييد التهديد، وسيتعين عليها، كحد أدنى، ومن بين رزنامة إجراءات أخرى، زيادة وحداتها العسكرية بشكل وقائي قرب الحدود مع فنلندا.
ويعتقد أن الخطوة الفنلندية لن تمر دون رد روسي “متكافئ”، نظرا لمجموعة من الاعتبارات، من أهمها عامل “التماس الجغرافي”، مشيرا إلى أن أمن فنلندا لن يكون أفضل، بل على العكس، من المرجح أن يقوم الناتو بنشر وحدات عسكرية كبيرة متعددة الجنسيات، وستظهر كذلك المنشآت العسكرية للحلف على مقربة من الحدود الروسية، مما يضع البلاد بين فكي كماشة التناقضات الروسية الغربية.