كييف/موسكو- مع بداية الحرب الروسية على أوكرانيا، كثرت الدعوات للتفاوض، عارضة على كييف التنازل عن طموحات العضوية في حلف شمال الأطلسي، والعودة إلى صفة الحياد.
حينها، كانت كييف تطالب موسكو بوقف الحرب، والعودة إلى حدود 24 فبراير/شباط 2022 كشرط شبه وحيد للتفاوض. وبدا أن الأمر مغرٍ لروسيا، لدرجة أن تركيا تمكّنت من جمع وفدي ووزيري خارجية كلا الجانبين.
لكنها اجتماعات لم تكلل بأي نجاح، فالكلمة الفصل كانت لسير المعارك على الأرض، واليد العليا فيها كانت -حينها- لروسيا دون شك.
تصلّب الموقف الأوكراني
انقلب الموقف الأوكراني رأسا على عقب مع منتصف السنة الماضية، بحصول كييف على أسلحة غربية نوعية للقتال غيرت سير المعارك لصالحها نسبيا، ثم ازداد تصلبا في سبتمبر/أيلول بعد قرار روسيا ضم 4 مقاطعات أوكرانية إلى أراضيها.
يقول رئيس مؤسسة “الخيارات الأوكرانية” للدراسات الإستراتيجية، أوليكسي كوشيل، إن “الأسابيع الأولى للحرب أثبتت أن روسيا تمارس ازدواجية المعايير، فهي لا تريد التفاوض أو تحقيق أية أهداف أعلنتها كذرائع لبدء الحرب، بل الاستحواذ على كامل أوكرانيا أو الجزء الأكبر منها”.
وبالتالي، يتابع كوشيل في حديث للجزيرة نت “أصبح من غير المنطق الاهتمام بالجلوس إلى طاولة المفاوضات، لأن فيها استسلام صريح، أو قبول بالأمر الواقع الذي فرضته روسيا، الأمر الذي تدعو إليه علنا حتى اليوم”.
خطة من 10 بنود
وعلى أساس الدعم المالي والعسكري الذي باتت تحصل عليه، أعلن الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي قبل شهور خطة بلاده للسلام، التي تستند إلى القانون الدولي ومبادئ الأمم المتحدة، كما قال، والمؤلفة من 10 بنود (أو شروط) وهي:
- السلامة النووية، بابتعاد الآلة العسكرية الروسية عن محطة زاباروجيا للطاقة، الأكبر في أوروبا.
- الأمن الغذائي، بحماية وضمان صادرات الحبوب الأوكرانية.
- أمن الطاقة، بفرض قيود على موارد الطاقة الروسية، واستعادة البنية التحتية للطاقة التي تضررت جراء القصف.
- الإفراج عن المعتقلين والأطفال “المختطفين” من المناطق المحتلة ودون استثناء.
- عودة جميع الأراضي الأوكرانية، بما يشمل شبه جزيرة القرم وكامل إقليم دونباس (وهذا البند غير خاضع للنقاش).
- وقف الأعمال العدائية بانسحاب روسيا واستعادة السيطرة على كامل الحدود الأوكرانية معها.
- محاكمة مجرمي الحرب، وإنشاء محكمة خاصة لمحاكمة جرائم الحرب الروسية.
- حماية البيئة، بالتركيز على إزالة الألغام، واستعادة مرافق المياه.
- منع تصعيد الصراع، لمنع تجدد الحرب، من خلال هيكل أمني أوروبي أطلسي، يقدم ضمانات لأوكرانيا.
- تأكيد انتهاء الحرب، بتوقيع وثيقة حول هذا الشأن من قبل الأطراف المعنية.
مساع تركية وصينية
حظيت الخطة الأوكرانية بقبول عالمي واسع، وخاصة من الأمم المتحدة وداعمي كييف. لكنها قوبلت برفض روسي قاطع يرى فيها تجاهلا لـ “حقائق اليوم”.
وهكذا، لم تبق في ساحة المساعي إلا محاولات تركية مستمرة، لجمع الطرفين، يتمسك بها الرئيس رجب طيب أردوغان ووزير خارجيته رغم إقرارهما بصعوبة الأمر وتعقيداته.
وأخيرا، برزت الصين من خلال إعلان خطتها الخاصة للسلام، لكنها قوبلت في أوكرانيا بالتشكيك والانتقاد، وبـ “الرفض” كما قال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بينما أثارت مخاوف الأميركيين.
سلام شامل واضح
يعود رئيس مؤسسة “الخيارات الأوكرانية” للدراسات الإستراتيجية فيقول “لتركيا مكانة كبيرة بالنسبة لأوكرانيا، لكنها تسعى إلى وقف إطلاق النار أولا، وأوكرانيا لا تثق بروسيا أبدا، فلا أحد يدرك كيف ستسير الأمور بعد ذلك، وكم ستطول، وكيف ستكون نتيجتها النهائية”.
وفيما يتعلق بالخطة الصينية، يرى هذا الخبير السياسي أن موقف بكين كان ولا يزال أقرب إلى روسيا “فهي لم تشر في خطتها صراحة إلى انسحاب الروس من جميع أراضينا. لذا، باعتقادي، هي خطة لحفظ ماء وجه بوتين، وليست لتحقيق سلام حقيقي”.
ولفت الخبير إلى بُعد آخر قائلا “معظم دول الجوار، و50 دولة حول العالم تدعمنا بقوة وسخاء لنتمكن من حسم الحرب والنصر، ولكي ننهي تهديد روسيا وجرائمها، وما باتت تسببه من مشاكل على المستويات الإقليمية والدولية”.
الموقف الروسي
من الجانب الآخر، لا يبدو أن الموقف الروسي في وارد التراجع عن “الأمر الواقع” و”الحقائق الجديدة” التي تعتبر موسكو أنها “تثبت” ما تعتبره استعادة للأراضي التاريخية التابعة لها، ابتداءً من شبه جزيرة القرم ومرورا (إذا لم تحدث تطورات مفاجئة) بدونيتسك ولوغانسك وزاباروجيا وخيرسون.
من هذه الزاوية بالتحديد، تتبلور المقاربة الروسية لشروط إجراء مفاوضات سلام مع كييف. وتنص المطالب الروسية على:
- قبول كييف بوضع جيوسياسي محايد.
- تعديل الدستور الأوكراني ليتضمن بندا لرفض نشر أسلحة على أراضيها.
- الاعتراف بشبه جزيرة القرم ودونيتسك ولوغانسك وخيرسون وزاباروجيا كأراضٍ روسية.
- نزع كافة أنواع الأسلحة في أوكرانيا والقضاء على النزعات “النازية والقومية والشوفينية” فيها.
معضلات أمام التفاوض
وهنا، قد تبرز أولى “المعضلات التقنية” أمام بدء المفاوضات، ففي الوقت الذي تضع فيه موسكو شروطًا لبدء المفاوضات، تقول إنها مستعدة لها ولكن دون شروط مسبقة من جانب كييف، انطلاقًا من الواقع القائم ومراعاة للأهداف التي أعلنت عنها روسيا كسبب للعملية العسكرية في أوكرانيا.
وفي هذا السياق، يؤكد مدير مركز التنبؤات السياسية في موسكو، دينيس كركودينوف، أن الظروف التي يطرح فيها الرئيس الأوكراني مطالبه، تشير إلى أنه معزول تمامًا عن الحقائق، بما في ذلك مطالبته بانسحاب القوات الروسية من مناطق دونباس وشبه جزيرة القرم وزاباروجيا وخيرسون. وعليه، فإن احتمالات التوصل إلى تسوية دبلوماسية -حسب رأيه- غير مرئية اليوم.
بالإضافة إلى ذلك، يرى كركودينوف أن المشكلة في الحوار مع كييف هي أن “نظام زيلينسكي يعتمد بشكل مطلق على رأي واشنطن ولندن وبروكسل، حيث يبذل الأنجلو ساكسون كل ما في وسعهم لجعل الحرب في أوكرانيا دموية قدر الإمكان ومنع أي مفاوضات جوهرية حول تسوية سلمية”.
وبخصوص خطة السلام الصينية للصراع في أوكرانيا، يقول الخبير الروسي إنه من الصعب العثور فيها على ما يشير إلى إكراه روسيا على تقديم تنازلات لكييف. وفي الوقت نفسه، لا يمكن اعتبارها منحازة لها، خاصة مع البند المتعلق بالوحدة الجغرافية لأراضي الخصمين، والذي يتناقض في الشكل والمضمون مع ضم المناطق الأربع، فضلاً عن القرم، لروسيا.
مراعاة المصالح
ووفقًا لمدير مركز التنبؤات السياسية في موسكو، فإن الخطة الصينية ستجد مع مرور الوقت طريقها إلى الحياة، كونها تأخذ في الاعتبار جميع المصالح. فالسياسة الخارجية الصينية، خلافًا للأميركية، غير مبنية على التهديدات والقوة. وكما أنها في عملية التوسع الاقتصادي تنطلق عادةً على أساس ثنائي، فإنها في النزاع الروسي الأوكراني تسترشد بنفس المبدأ.