نابلس- لم يفكر كثيرا، بل سارع الشاب أحمد سالم إلى تكريم صديقه الشهيد محمد حرز الله (أبو حمدي) بوضع صورة ضخمة له وسط البلدة القديمة بمدينة نابلس شمالي الضفة الغربية.
وفي باب الساحة حيث المكان الأكثر جذبا لزوار نابلس، اعتلى أحمد سالم برج ساعة المنارة التاريخي، وعلّق صورة كبيرة لرفيقه أبو حمدي، وكذلك فعل كثيرون وألصقوا صور رفاقهم الشهداء، في مشهد بدا جماله أقرب للقلب منه للعين.
وعلى غير العادة، اختلفت نابلس القديمة في زينتها الرمضانية هذ العام، فبدلا من الأعلام الزاهية والإضاءات المزركشة، طغت صور الشهداء في المكان، وغطت جدران المنازل وأسوارها العالية، ولا سيما أولئك الذين ارتقوا فوق أرضها وبين أزقتها من مجموعة عرين الأسود المقاومة.
مبادرات شخصية
“في رمضان الماضي وفي هذا المكان مرَّ كل أولئك الشهداء، ومنهم أبو حمدي وإبراهيم النابلسي ووديع الحوح ومحمد العزيزي (أبو صالح) وعبد الرحمن صبح وغيرهم، وكأنهم كانوا يودعونه للرحيل”، هكذا يتذكر بحزن أحمد سالم أصدقاءه.
وفي حديثه للجزيرة نت، يضيف سالم أنهم زيَّنوا أزقة البلد وشوارعها بصور الشهداء وبعبارات مخطوطة تمجّدهم ونُصُب تذكارية تكريما لهم ووفاء لدمائهم وأرواحهم التي بذلوها لوطنهم، ولإبقاء الذاكرة حيَّة ببطولاتهم، مشددا أن كل ذلك كان بمبادرات شخصية منهم كشباب باب الساحة، كما يطلقون على أنفسهم.
كما بادر سالم ورفاقه لزيارة ذوي الشهداء في منازلهم لمؤازرتهم والتخفيف عنهم، مضيفا “لم نسقط الشهداء من أجندة الزيارة، ونصلهم في قبورهم باستمرار”.
وفي باب الساحة أيضا، تصدح مكبرات مسجد النصر -أحد أقدم مساجد نابلس- بصوت الإمام وهو يدعو مترحّما على الشهداء تارة وبالثبات للمقاومين تارة أخرى، بينما تتعالى أصوات الباعة المتجولين وهم ينادون بأسماء الشهداء ويأتون على سيرهم ومناقبهم الحميدة، كما تنقل مكبرات الصوت أناشيد وأهازيج أعدت خصيصا لهم وبأسمائهم.
من هنا مروا
لكن لماذا باب الساحة؟ سألنا مواطنين بصوت مرتفع ونحن نجوب المكان، فرد أحدهم “إن أنفاس أولئك الشهداء وروائحهم لا تزال تعبق فيه، ومنه أطلق المقاومون وما زالوا بياناتهم، وأعدوا خططهم لمواجهة الاحتلال”.
بينما أجاب شاب آخر يدعى خالد ويعمل في بيع المشروبات الساخنة على بسطة تزيَّنت بصور الشهداء، أن لكل شهيد حكايته في هذا المكان، وأنهم جلسوا هنا وشربوا القهوة والشاي، وشاركوا الناس أفراحهم وأحزانهم في رمضان وفي غيره، وأمسى لهم ذكريات لا تُنسى.
وأضاف خالد للجزيرة نت “أصبح المكان مزارا، وكذلك البلدة القديمة برمتها، ونحن صرنا أدلَّاء سياحيين، نحكي قصص الشهداء وبطولاتهم ونرشد الناس لمكان استشهادهم”.
ولم يغب تكريم الشهداء عن بال رفاق دربهم في المقاومة، إذ بات خروج المقاومين في عرين الأسود بزيهم العسكري وهم يحملون صور الشهداء ويوزعون الحلوى في ليالي رمضان، مشهدا مألوفا في البلدة القديمة، وعامل جذب للزوّار من كل مكان، بل إن الكثيرين باتوا يقصدون المكان لرؤيتهم بهدف إسنادهم والشد من عزيمتهم.
ومن فوق الجدران، انتقلت صور الشهداء وأسماؤهم إلى القلائد في أعناق الشبان ومعاصمهم وعلى هواتفهم الخلوية.
السحور على أنغام الشهداء
قبل الفجر، تصدح حنجرتا المسحرين ثائر الرطروط وعامر سويلم في حواري البلدة القديمة وأزقتها، لتوقظ الناس على وقع كلمات تحيي الشهداء وتذكر الناس ببطولاتهم، خاصة كلما مروا بالقرب من مواقع استشهادهم.
وبينما يضرب ثائر على الدف، ينادي عامر مترنما “حيوا حيوا هالشهيد.. يلا نمشي أيد بايد، وقسما قسما يا شهيد.. عن أهدافك ما بنحيد، والله يا رب العالي.. يحمي العرين الغالي”.
يقول سويلم للجزيرة نت إنهم يطوفون معظم أزقة البلدة القديمة، ولكنهم ولكثرة الشهداء لم يعودوا قادرين على الوصول لكل المنازل والهتاف لهم، ويستدرك “غير أنهم لم يبرحوا قلوبنا وعقولنا، ونترحم عليهم سوية”.
بقالة تحولت إلى مزار
وغير بعيد من باب الساحة، يجلس أسامة حرز الله شقيق الشهيد محمد حرز الله (أبو حمدي) في بقالة والده عند مدخل حارة القريون، يطالع صورة شقيقه التي أخذت حيَّزا فوق برج الساعة، ويقول إن شقيقه كما الشهداء جميعا حاضرون عند هذا الجيل الشاب الصاعد الذي يحاول تقليد “أبو حمدي” ورفاقه بكل أفعالهم.
يقول حرز الله -وهو ناشط ومطلع على شؤون البلدة القديمة بنابلس- إن استحضار الشهداء عبر الصور والأغاني أشعر أهاليهم بفخر كبير، وأنهم لم ولن يُنسَوا، ويعكس مدى تأثر هؤلاء الشباب بالشهداء ونهجهم المقاوم، وبالتالي إعادة البوصلة لمسارها الصحيح.
وأضاف أن الشهيد أبو حمدي “صاحب العزمات التي لا تنسى، فقد ترجَّل مدافعا عن أصدقائه الشهداء محمد العزيزي وعبد الرحمن صبح في المعركة الأولى التي استُهدف بها العرين أواخر يوليو/تموز الماضي، وقال كلمته المشهورة قبيل استشهاده حين طالبه أحدهم بالتراجع بفعل هول المواجهة والاشتباك: هناك أناس تقتل الآن وتقول لي أرجع”.
ويتابع حرز الله إن بقالتهم التي تملأها صور أبو حمدي والشهداء أضحت مزارا ومحطة استفسار عن الشهداء وتضحياتهم وأماكن استشهادهم، ويضيف أن زوّار نابلس القديمة أضحوا بالآلاف يوميا وزادوا عن العام الماضي، وأن سبب ذلك هو دماء الشهداء، وختم قائلا “أبو حمدي ورفاقه قدَّموا أرواحهم للوطن، ومهما فعلنا لهم فلن نكافئهم”.
وقد ارتقى في نابلس 33 شهيدا فلسطينيا خلال 2022، بينما وصل شهداء الثلث الأول من العام الجاري 25 شهيدا، بينهم شهداء من “عرين الأسود” التي أعلنت نفسها جماعة مقاومة للاحتلال بعد منتصف العام الماضي، واتخذت من البلدة القديمة بنابلس مقرا لها.