جنين – بحزن لا ينتهي، يقف الخمسيني الفلسطيني جمال حويل داخل مقبرة شهداء معركة مخيم جنين عام 2002، لكن الحزن يتحول إلى فخر حين يذكر اسم أحدهم شارحا تفاصيله مقاومته لجيش الاحتلال حتى استشهاده، حيث كان حويل يقاتل بجانبهم.
المعركة التي يصادف ذكرى مرورها اليوم الثاني من أبريل/ نيسان، استمرت 10 أيام وخلدها الفلسطينيون بنصب تذكاري لشهدائها، وهناك يشير حويل إلى أحد القبور قائلا “هذا قبر الشهيد محمود طوالبة، أحد أبرز القادة الميدانيين في المعركة، وهناك قبر النوباني صاحب كمين الـ 13 في المخيم”.
حويل كان عضوا في غرفة العمليات القتالية المشتركة في المعركة التي وصفت بالأعنف في تاريخ الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، حين قرر الاحتلال اجتياح مخيم جنين ومدن الضفة الغربية في أعقاب عملية تفجير فندق بمدينة نتانيا داخل إسرائيل، وأسفرت المعركة عن استشهاد 60 فلسطينيا وجرح أكثر من 243، واعتراف إسرائيل بمقتل 24 جنديا.
يجلس حويل على طرف صخرة وسط المقبرة ويبدأ بسرد تفاصيل المعركة بالقول إن “معركة أخرى سبقت معركة نيسان عام 2002، حيث وقعت في مارس/آذار من العام نفسه، عندما تمكنت المقاومة من قتل 9 جنود إسرائيليين، في حين استشهد 24 مواطنا فلسطينيا، ولم تتمكن قوات الاحتلال من دخول المخيم”.
في حديثه للجزيرة نت، أضاف حويل أنه “مع بداية أبريل/نيسان 2002 حاصرت قوات الاحتلال المخيم وعززت من قواتها في محيطه، كان الهدف واضحا بالقضاء على المقاومة بشكل عام وفي المخيم على وجه الخصوص، لأن مخيم جنين معروف منذ العام 69 باحتضانه المقاومة تحت أجنحة الفصائل كافة”.
واعتبر أن هذه المعركة حولت القيادة السياسية في إسرائيل إلى قادة عسكريين، “آرئيل شارون جاء إلى أحراش السعادة قرب جنين وأشرف على المعركة، بالإضافة إلى استخدام كل أنواع الأسلحة، حتى طائرات إف-16 وطائرات الكوبرا والأباتشي وناقلات الجند والقناصة، ووحدات خاصة مثل جولاني واليمام وجفعات”.
ذكريات المعركة
يحكي حويل تفاصيل الأيام التي قضاها برفقة المقاتلين الذين استشهد أغلبهم، موضحا أن “حجم الدمار كان كبيراً جداً، إسرائيل لم تكن تفرق بين مدني ومقاتل، الكل مستهدف، والأهالي عاشوا أياماً من الرعب والحصار”.
وتابع “أذكر أحد الشهداء الذين كان يقاتل إلى جابني حين كان علينا التحرك من المكان المتحصنين فيه، قال لي أوصيكم ببناتي الأربع، أنا أريد أن أرى بيتي قبل أن أذهب، وحين نبهته إلى خطورة ذلك، قال أنا ميت ميت أريد أن أرى منزلي من بعيد قبل استشهادي، وبالفعل وقف لينظر إلى منزله فجاءته رصاصة قناص في عنقه واستشهد على الفور”.
ويذكر أيضا قصة استشهاد قائد سرايا القدس محمود طوالبة وإلى جانبه الشهيد شادي النوباني، حيث استشهدا في اللحظة نفسها ودفنا معا في قبرين متجاورين كأنهما قبر واحد.
وأضاف أن من القصص المؤثرة أيضا قصة الشهيدة مريم وشاحي، السيدة التي اعتادت إعداد الطعام للمقاومين يوميا، وفي يوم كانت تحاول إيصال الفطائر الساخنة طالبتها بالحذر من القناصة، لكنها قالت إنها كانت يجب أن تستشهد منذ وقت طويل، في تلك اللحظة لم أستطع إخبارها أن ابنها مصاب ووضعه خطر، في اليوم التالي استشهدت مريم وهي تحضر العجين لإعداد الخبز، وبعدها بيومين استشهد ولدها منير وشاحي.
اختفاء محمد البدوي
في الحارة الغربية من مخيم جنين تسكن سهام تكمان (53 عاما)، التي فقدت شقيقها محمد البدوي في معركة نيسان، ولم تستطع هي وعائلتها الوصول إليه حيا ولا إلى جثمانه ميتا حتى اليوم.
تقول سهام “كان أخي محمد يحمل السلاح ويشارك شباب المخيم في القتال، كنا نسكن منزل والدي في الحارة الغربية، بقي الحصار مدة 4 أيام، وفي اليوم الخامس بدأ دخول القوات الإسرائيلية إلى المخيم، في ذلك اليوم خرج أخي محمد ولم يعد ولم نعثر على أي أثر له حتى اليوم”.
بعض الأخبار وردت لعائلة محمد أنه أصيب بشظايا صاروخية، وطالب الطبيب نقله بأسرع وقت للمستشفى بسبب النزيف، لكن الحصار حال دون ذلك، فأخذه رفاقه إلى حارة الحواشين وسط المخيم، وهناك جرفت آليات الاحتلال بيوت الحارة بالكامل، ولم يستطع رفاق محمد أن يحملوه معهم، لذلك لم يعرف إن كان بقي تحت الردم أم لا.
تقول سهام “أذكر آخر ليلة قضيتها معه، كان على عجلة من أمره وطلب مني أن أحضر له عدة الحلاقة ليحلق ذقنه، قلت له أن الوقت غير مناسب للحلاقة، خاصة أن الكهرباء مقطوعة على كل أحياء المخيم، لكنه أصر وفعلاً حلق ذقنه على عجلة، وأنا ذهبت إلى طرف المنزل وعندما عدت لم أجده، حدث ذلك خلال ثوان فقط، ومنذ تلك اللحظة لم أره”.
وتضيف “بعد المجزرة أطلعونا على نتائج تحليل لعدد من الشهداء الذين وجدوا أشلاء أو محترقين، لكن لم تتطابق أي نتيجة منهم مع أخي محمد، اليوم أسأل نفسي حتى وإن بقي تحت ركام حارة الحواشين، ألا يمكن أن تظهر عظمة من عظامه مثلا، قطعة من ملابسه حتى؟”.
دروع بشرية
بدوره، يروي أسامة الحويطي بعضا من تفاصيل المعركة التي علقت بذاكرته وهو طفل لم يتجاوز العاشرة من عمره حينها، قائلا “أكثر ما علق في ذاكرتي هو اليوم الأخير للمعركة، مشاهد الدمار المنتشرة في كل أرجاء المخيم، الأشلاء في بعض الشوارع، ولا يمكن لي أن أنسى أبدا حالة الذهول والرعب التي كان عليها الناس، كان الجميع في حالة ذهول”.
وأضاف “في يوم من أيام الحصار وصلت سيارة للإسعاف أمام بيتنا، وكان من ضمن طاقمها الدكتور خليل سليمان، الذي سمي لاحقا مستشفى جنين الحكومي باسمه، قصفهم جيش الاحتلال بصاروخ، حاول أبي الخروج لسحبهم للمنزل ومساعدتهم، ولكي يحتمي من رصاص القناصة الإسرائيليين، حمل شقيقتي الرضيعة وخرج لكن الدكتور كان قد استشهد”.
ويؤكد الحويطي أن قوات الاحتلال استخدمتهم لأكثر من مرة دروعا بشرية خلال تنقلها من منزل لآخر داخل المخيم.
استلهام التجربة
يقطع حديثنا مع جمال حويل مقاتل من كتيبة جنين قدم ليزور قبر قريب له ممن استشهدوا في المعركة، يحمل على كتفه الأيمن بندقيته، ويحاول أن ينظف جوانب القبر من الأعشاب والحشائش باليد الأخرى. كان هذا المقاتل طفلا يوم معركة نيسان، واليوم يشارك المقاومين في التصدي لاقتحامات جيش الاحتلال المتكررة للمخيم.
يقول المقاتل -الذي فضل عدم ذكر اسمه- “قد لا نعي تفاصيل المجزرة بتفاصيلها في ذلك التاريخ، لأننا كنا أطفالا عند حدوثها، لكننا نعي ما يفعله الاحتلال منذ أكثر من 70 عاما في فلسطين كلها، نحن كمقاتلين نستمد عزيمتنا من قصص الشهداء الأبطال في معركة نيسان 2002”.
وهو ما يؤكده أيضا جمال حويل، حيث يعتقد أن حالة المخيم في 2002 انعكست في تربية الجيل الجديد الذي يحمل السلاح ويتصدى لاقتحامات الاحتلال حاليا، مشيرا إلى أن المقاتلين الآن هم أبناء وأقرباء شهداء معركة نيسان 2002.