بيروت – أمام قبر نجله الوحيد، يحني الفلسطيني أحمد عثمان ظهره على جذع شجرة مظللة، يسقي الشتلات ويرتب الأزهار، ثم يحبس الدمع لتلاوة الفاتحة، في عادة يواظب عليها يوميا منذ قُتل طارق إثر خلاف شخصي داخل مخيم شاتيلا جنوب بيروت سنة 2019.
يشير الأب المفجوع بسبابته نحو اسم طارق الممهور على الضريح وسط 4 أسماء آخرين من أبناء العائلة دفنوا بالقبر عينه، أولهم توفي سنة 1981 وآخرهم سنة 2022.
يقول عثمان -للجزيرة نت- بصوت متهدج “أتمنى ألا يسبقني أحد من العائلة إلى هذا القبر. سئمت من المشاركة برحلة البحث عن مساحة فارغة لدفن موتانا، وندفن معهم حلم الحياة والموت على أرض فلسطين”.
ذاكرة المقابر
هنا في مدخل مقبرة “شهداء فلسطين” في بيروت، تبدو أضرحة الشهداء والموتى فسيفساء تفترش أرضا بلا فراغات تتسع لحفر قبر جديد، وهذا حال مختلف مقابر اللاجئين الفلسطينيين وهم ينبشون قبور آبائهم وأجدادهم لدفن موتاهم.
نعبر بين شواهد القبور حيث صار مألوفا تسطيرها بأسماء متعددة، لكن مقبرة “شهداء فلسطين” القريبة من مخيمي صبرا وشاتيلا التي أنشئت سنة 1958 في مساحة خضراء مملوءة بأشجار الصنوبر تتكثف فيها سيرة شهداء التهجير منذ النكبة سنة 1948، وبين أشجارها تتفيأ مقابر عشرات الشهداء المناضلين والرموز الفلسطينية والعربية، ممن دفنوا فيها تباعا منذ صارت مقبرة رسمية لمنظمة التحرير الفلسطينية سنة 1964.
عند حائط علقت عليه صور كبار قياديي أطياف حركة التحرر الفلسطيني الذين استشهدوا في السبعينيات، أمثال كمال ناصر وكمال عدوان وماجد أبو شرار وأبو يوسف النجار وغيرهم، نجد ضريح الكاتب غسان كنفاني مطبوعا بصورته وبعض أقواله الشاهدة على سيرة مناضل فلسطيني استثنائي، ويجاوره ضريح رفيقته وابنة أخته المناضلة لميس نجم التي استشهدت معه على يد الإسرائيليين في بيروت سنة 1972، وعلى بعد أمتار منهما ترقد بلقيس زوجة نزار قباني التي استشهدت في بيروت أيضا سنة 1981 إثر تفجير السفارة العراقية.
هذه الأضرحة تبدو وثيقة لذاكرة دموية عرفتها بيروت، وكان للفلسطينيين الذين استشهدوا على يد إسرائيليين ومليشيات لبنانية حصة كبيرة منها. لكن عند أطراف المقابر حيث يعيش الفلسطينيون بمخيماتهم، يتجلى حلم العودة بعبارة دوّنت ذات يوم على مقبرة مخيم “نهر البارد” شمال لبنان: “نعدكم أننا سنحمل رفاتكم معنا”.
وإذا كان المكان الذي يحبّ الإنسان أن يقضي فيه آخر سنوات عمره هو المكان الذي يتمنى أن يُدفن فيه، تحت تراب وطنه، تنطوي هذه المعادلة على الألم الفلسطيني في بلاد الشتات، كونها رغبة مستحيلة تلازمهم في الحياة والممات.
13 مقبرة فقط
تغيب البيانات الرسمية التي ترصد واقع المقابر الفلسطينية رغم إقرار وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) ولجنة الحوار اللبناني الفلسطيني بحجم أزمة الاكتظاظ، وعدم وجود مساحات لتوسيع المقابر الحالية أو استحداث مقابر جديدة.
وحسب ما أفادت الأونروا به للجزيرة نت، يبلغ إجمالي عدد المقابر الرسمية للفلسطينيين نحو 13 مقبرة، والعديد منها موجود داخل المخيمات ولا تستوعب مدافن إضافية بالأشهر القادمة، ولم يعثر على حل بديل حتى الآن.
كما تأتي في سياق أزمة مقابر عامة يشهدها لبنان، وتتكثف في المدن وتحديدا بالعاصمة بيروت، لأن اللبنانيين من سكان المدن الكبرى يواجهون صعوبات جمة عند دفن موتاهم نتيجة اكتظاظ المقابر وارتفاع كلفتها.
لكن خصوصية أزمة مقابر الفلسطينيين ترتبط بواقعهم بوصفهم لاجئين. وتاريخيا، ظهرت أولى بوادرها في منتصف الثمانينيات عقب الحرب الأهلية اللبنانية وحرب المخيمات وحصارها، فارتفعت معدلات الموتى وامتلأت المقابر.
وعلى مر السنوات التي تهالكت فيها البنى التحتية وارتفعت معدلات البطالة والفقر المدقع داخل المخيمات، تفاقمت معاناة سكانها بالعثور على مقابر، وهم لا يملكون ترف الدفن خارجها، لأن حفر القبور وتجهيزها والنقل إليها يتطلب مبالغ باهظة قياسا بظروفهم.
ورغم أن رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط قدم سنة 2009 قطعة أرض بمساحة 10 آلاف متر مربع في قرية سبلين بجبل لبنان لتكون مقبرة للاجئين الفلسطينيين، فإنها تبعد كثيرا عن معظم المخيمات الفلسطينية وتبلغ كلفة الدفن فيها نحو 100 دولار.
مقبرة البرج
داخل مخيم برج البراجنة في قلب ضاحية بيروت الجنوبية يدلنا الفلسطيني إبراهيم حسين على مقبرة دفن فيها 5 من أفراد عائلته، تجاور آلاف القبور التي يُدفن فيها أبناء المخيم فوق بعضهم بعضا. يقول متأثرا بواقعة دفن ابن عمه في ديسمبر/كانون الأول 2022 “اضطررنا أن ننبش قبر والده مع أعمامه، أزحنا بقايا العظام لإفساح مجال لجثمانه، بينما لا يستجيب أحد لمطلبنا بإنشاء مقبرة جديدة للمخيم”.
هذه المقبرة التي أُسّست سنة 1981 كانت ملعبا لكرة القدم، لكن الحرب التي أعاقت حركة اللاجئين أجبرتهم على استحداث مقبرة فيه، وتضم حاليا أكثر من 5 آلاف ضريح. ويتولى الشاب وليد شريفة حراستها وحفر قبورها، موضحا أن معدل عدد الجثامين بالقبر يراوح بين 3 و6 جثث، وأن كل عائلة لديها نحو 10 مقابر، لكن “الأزمة بلغت ذروتها، ومن غير الممكن حفر قبر جديد”.
وفي حديثه للجزيرة نت، يقول شريفة إن كل دفن صار يستوجب إزاحة عظام الجثث أو وضعها بأكياس قرب الجثة الجديدة، وتبلغ تكلفة الموت للفرد من غسيل وكفن وتابوت وحفر قبر نحو 200 دولار بالمخيمات، وذلك يرهق سكانها.
على بعد كيلومترات في مخيم شاتيلا، نجد مقبرة مغلقة وعلقت فوقها رخامة بيضاء مدونة بعبارة “أضرحة الشهداء الذين سقطوا دفاعا عن مخيم شاتيلا 1985-1987”. ومن فراغات بوابتها الحديدية، يدلنا الأمين العام للجنة الشعبية المهندس ناجي دوالي في مخيم شاتيلا على المقابر التي يضم كل منها بين 5 و7 جثث، بفعل وتيرة الموت الجماعي الذي شهده المخيم حينئذ واستدعى إغلاقها.
وهكذا، لم تعد لأبناء شاتيلا مقبرة خاصة مفتوحة. يقول دوالي للجزيرة نت “ننقل جثامين موتى شاتيلا إلى المقابر بمخيمات أخرى، أو إلى سبلين، ونادرا ما يشتري ذوو المتوفى قبرا بمدافن اللبنانيين”.
هذا الأمر يضاعف مأساة الفلسطينيين -وفق دوالي- نفسيا وماديا، لأن كلفة متطلبات الدفن بالدولار، أما أبناء المخيمات فيواجهون فقرا غير مسبوق بفعل تأثرهم بانهيار الليرة اللبنانية مقابل الدولار.
اتهامات للأونروا
في هذا السياق، يقول الباحث بالشأن الفلسطيني علي هويدي إن ارتفاع الكثافة السكانية ببقع جغرافية لم تتطور مساحتها منذ إنشاء المخيمات يبرر أزمة اكتظاظ المقابر، لأن الأولوية تعطى لبناء المساكن العشوائية وليست لتوسيع أراضي المقابر.
ويقول هويدي إن المخيمات البالغة 12 مخيما ولديها مقابرها الضيقة معترف بها جغرافيا وديمغرافيا من الدولة اللبنانية والأونروا، لكن هناك نحو 158 تجمعا للاجئين تعترف بها الأونروا ديمغرافيا وليس جغرافيا، وذلك يفاقم القلق إزاء تنامي ظاهرة الدفن العشوائي.
ويرى المتحدث أن مقبرة سبلين أرجأت انفجار أزمة المقابر ولم تحلها، لأن التكلفة وبعد المسافة جعلاها خيارا صعبا للفلسطينيين عند دفن موتاهم.
وفي رد على أسئلة الجزيرة نت إلكترونيا، توضح الأونروا أن مشكلة المقابر تكمن في المساحة المحدودة للمخيمات، “إذ لا توجد أراض متاحة لتوسيع المقابر الحالية”.
وتفيد الوكالة بأن حدود دورها تتوقف عند التيسير المحتمل للمفاوضات مع الحكومة المضيفة والجهات الفاعلة كالبلديات لتوفير أراضٍ إضافية للمقابر. وتقول “قد تقوم الأونروا بإعادة تأهيل هذه الأراضي لتكون مقابر كما حدث في سبلين وفي نهر البارد، لكنه هذه المسألة لا تغطيها الميزانية الأساسية للأونروا”.
وتقدر أعداد الفلسطينيين -وفق آخر إحصاء للسلطتين اللبنانية والفلسطينية سنة 2017- بنحو 174 ألف لاجئ، بينما يبلغون على لوائح الأونروا نحو 475 ألف لاجئ، والفارق بين الرقمين نتيجة عدم شطب الأونروا آلاف اللاجئين الذين غادروا لبنان من لوائحها.