القاهرة- مع مضي الحكومة الإثيوبية قدما في إكمال بناء سد النهضة الذي تقيمه على النيل الأزرق رغم اعتراضات القاهرة المتكررة تبدو خيارات مصر محدودة بالنظر إلى ما تم الاتفاق عليه بين أطراف الأزمة كما يقول خبراء.
وبينما كررت مصر مؤخرا تمسكها بحقوقها المائية التاريخية وقالت إن لديها خيارات عدة للتعامل مع “التعنت” الإثيوبي أعلنت أديس أبابا إكمال 90% من عمليات البناء مع قرب شروعها في التعبئة الرابعة دون موافقة مصر والسودان.
وخلال عمليات التعبئة الثلاث الأولى لوحت مصر باللجوء إلى “كل الخيارات”، وكان الإثيوبيون يواصلون إكمال مشروعهم مؤكدين أنهم لن يوقفوا أعمال السد، وأنهم لن يلحقوا أي أضرار بدولتي الممر والمصب (السودان ومصر).
ويمثل نهر النيل المصدر الأساسي للمياه في مصر التي تحصل على 55.5 مليار متر مكعب سنويا تشكل ما يصل إلى 97% من حاجتها المائية، وتأتي أغلبية هذه الحصة من النيل الأزرق حيث يتم بناء السد.
اتفاق بلا التزام
وتباينت مواقف الخبراء بشأن خيارات القاهرة من أجل وقف الضرر الجسيم التي تقول مصر إنه سيلحق بها ما لم توقع أديس أبابا على اتفاق ملزم يضمن عدم الإضرار بها.
ومن الناحيتين السياسية والقانونية تمتلك القاهرة عدة أوراق للضغط على أديس أبابا كما يقول الباحث في مركز الأهرام للدراسات عطية عيسوي للجزيرة نت.
وأضاف عيسوي المتخصص في الشأن الأفريقي أن اتفاق المبادئ الذي يحكم سلوكيات الدول الثلاث ينص على التزام الأطراف بالقوانين الدولية المنظمة لمياه الأنهار المشتركة، وأن يتم ملء بحيرة السد وتشغيله بالتشاور بين الدول المعنية، فضلا عن حل المشكلة بالتشاور ثم التفاوض ثم اللجوء إلى طرف ثالث، وأخيرا عقد قمة بين زعماء الدول الثلاث، وهي أمور لم تلتزم أديس أبابا بأي منها.
دبلوماسية ثم رد عسكري
ويقول عيسوي إن المتاح أمام مصر حاليا هو “شن” حملة دبلوماسية لتوضيح الموقف أمام العالم، ولا سيما المؤسسات الدولية مثل مجلس الأمن، للمطالبة بفرض عقوبات على أديس أبابا كونها انتهكت اتفاقية 2015، وأخيرا قد تصل الأمور إلى “الرد العنيف”.
ويرى أن الصين مؤهلة أكثر من الولايات المتحدة لإقناع إثيوبيا بتصحيح سلوكها لما تمتلكه من استثمارات ونفوذ في أديس أبابا، ناهيك عن حرص رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد على الابتعاد عن واشنطن، لأنها مارست عليه ضغوطا في فترة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب.
ومع ذلك -يضيف المتحدث- فإن الولايات المتحدة وبدافع رغبتها في الحفاظ على استقرار مصر قد تسهل الوساطة الصينية عبر طرف آخر مثل النرويج والسويد وسويسرا وفرنسا، أو بتشديد العقوبات على أديس أبابا.
وأضاف “في حال لم تفلح الدبلوماسية ستتجه مصر للرد العسكري عند بدء حدوث الخطر الجسيم المتمثل في تراجع حصتها المائية بدرجة تهدد الرقعة الزراعية وحياة السكان، وهو ما لم يحدث بعد”، مشيرا إلى أن العقوبات التي قد تترتب على هذا التحرك العسكري ستكون أقل بكثير من تراجع حصة مصر المائية بدرجة خطيرة.
الانسحاب من اتفاق المبادئ
وعلى الجهة المقابلة، يقول أستاذ هندسة السدود والسواحل بجامعة “إنتي- آي يو” (INTI-IU) بماليزيا الدكتور محمد حافظ إن الصور الحديثة التي التقطتها الأقمار الصناعية يوم التاسع من مارس/آذار الجاري تؤكد صب خرسانة تقدر بمنسوب 625 مترا فوق سطح البحر، مما يعني أن إثيوبيا تستعد فعليا للملء الرابع خلال يونيو/حزيران المقبل.
وفي حديثه للجزيرة نت، قال حافظ إن الأمور الفنية تشير إلى إمكانية الوصول بمنسوب الممر الأوسط إلى 625 مترا فوق سطح البحر، مما يعني ضمنيا القدرة على تخزين 49 مليار متر مكعب من المياه (22 مليار متر مكعب المخزنة فعليا في البحيرة+ 27 مليار متر مكعب سيتم تخزينها خلال الملء الرابع).
ويؤكد حافظ أن هذه الكميات تجعل إثيوبيا في موقف قانوني سليم، لأن وزير الري المصري السابق محمد عبد العاطي وقع في فبراير/شباط 2020 منفردا على السماح لأديس أبابا بتخزين 49.3 مليار متر مكعب بنهاية الملء الرابع، مضيفا “رغم انسحاب الإثيوبيين من المفاوضات التي رعاها البيت الأبيض آنذاك فإنهم متمسكون بهذه الكميات التي وقعت عليها القاهرة أمام دونالد ترامب”.
ولا يعتقد حافظ أن أي تحرك دبلوماسي مصري -سواء كان عربيا أو دوليا- سيكون له أي صدى على أرض الواقع، بدليل أن المباحثات السرية التي أجريت في الإمارات مؤخرا لم تفلح في التوصل إلى شيء بسبب رفض أديس أبابا القاطع تقديم أي تنازلات رغم حضور الإمارات الاقتصادي القوي في إثيوبيا، حسب قوله.
وخلص إلى أنه حتى مجلس الأمن لن يتمكن من تقديم فعل إيجابي إلا إذا انسحبت مصر نهائيا من اتفاق المبادئ الموقع عام 2015 الذي يقيد تحركات الأطراف في مواجهة أديس أبابا، حسب قوله.
مفهوم جديد للتخزين
ووفقا للمتحدث، فقد انتقل مفهوم التخزين في السد إلى مرحلة جديدة تماما بعد تخزين 22.3 مليار متر مكعب في الملء الثالث، لأن المراحل الثلاث الأولى للتعبئة تمت بشكل مباشر في بحيرة “السد الخرساني”، فيما الرابعة ستتم في بحيرة “سد السرج” الذي يعني كل متر ارتفاع فيها احتجاز قرابة مليار متر مكعب.
وإذا نجح الملء الرابع -يقول حافظ- فمن المنتظر أن تصل مساحة بحيرتي التخزين لقرابة 1750 كيلومترا مسطحا مقارنة بـ820 كيلومترا بعد الملء الثالث، أي بزيادة تعادل 115% عما كانت عليه في أغسطس/آب 2022.
وأضاف “ستقوم بحيرة السرج وحدها خلال الملء الرابع بتخزين 35% من إجمالي ما تم تخزينه خلال عمليات التعبئة الثلاث السابقة، ونتيجة ذلك يتوقع أن يزيد مسطح البحيرة بقرابة 900 كيلومتر مربع، مما يعني امتصاص أكثر من 3 مليارات متر مكعب على الأقل في عملية تشبع التربة، فضلا عن تسريب المياه في الفوالق الجيولوجية”.
ومن الناحية العملية، فإن تعبئة وفقدان نحو 30 مليار متر مكعب خلال الملء المقبل من أصل 35 مليار هي تدفقات النيل الأزرق خلال أشهر الصيف يعنيان تمرير 5 مليارات متر مكعب فقط سيحتجزها السودان، مما يعني أن حصة مصر ستكون “صفرا” خلال هذه الفترة في حال كان الفيضان المقبل متوسطا، أي يحمل حوالي 48.5 مليار متر مكعب، على أن تحصل على نحو 14 مليار متر مكعب من النيل الأزرق بعد سبتمبر/أيلول، وفق حافظ.
أما لو كان الفيضان فوق المتوسط فمن الممكن أن تحصل مصر على حوالي 20 مليار متر مكعب بنهاية العام المائي المقبل (31 يوليو/تموز 2024)، وفق المتحدث.
ما الخيارات المتاحة لـ #مصر في حال لم يتم التوصل إلى اتفاق بشأن #سد_النهضة؟ pic.twitter.com/9BPtQhEcoy
— الجزيرة مباشر (@ajmubasher) March 25, 2023
مأزق محتمل
وبرأي حافظ، فقد وصل منسوب بحيرة ناصر جنوبي مصر يوم الرابع من مارس/آذار الجاري إلى قرابة 180.88 مترا فوق سطح البحر، وذلك بانخفاض قدره متر واحد عما كان عليه يوم 16 أكتوبر/تشرين الأول 2022، حيث كانت البحيرة في أعلى منسوب ممكن بالقرب من 182 مترا، وهذا يدل على أن وزارة الري تنفذ مخططا تقشفيا شديدا، وأنها تقريبا تسمح بتصريف التدفق اليومي الذي يصل إليها من روافد النيل المختلفة دون أي سحب ملحوظ من بحيرة ناصر، وهذا أمر جيد جدا في هذا التوقيت للحفاظ على كل نقطة مياه ممكنة لمواجهة تبعات الملء الرابع.
لكن هذه السياسة التقشفية الحذرة -وفق المتحدث- لا يمكن أن تستمر طويلا، لأن تدفق النيل الأزرق اليوم ليس أكثر من 50 مليون متر مكعب تُصرف لمصر والسودان من أنبوب المنفذ السفلي بالجانب الغربي لسد النهضة، يضاف إليها قرابة 20 مليون متر مكعب تصرفها التوربينات المنخفضة.
ومع تراجع تدفقات النيل الأبيض منذ فبراير/شباط الماضي وحتى اليوم وانخفاض منسوب بحيرة فيكتوريا بشكل كبير جدا فإننا بصدد سنوات جفاف قاسية على مصر والسودان، وهو ما تجلى في العديد من الحرائق التي حدثت في العديد من القرى السودانية.
هذا التراجع الكبير قد يضع مصر أمام مأزق مائي خطير، لأنها تصرف كميات كبيرة جدا من مخزون بحيرة ناصر البالغ 150 مليار متر مكعب تكفي لسد حاجتها خلال 2023 و2024، لكن مع حلول سبتمبر/أيلول 2024 سيكون من الصعب جدا تعويض أي مياه تصرف من هذه البحيرة، حيث يتوقع أن يتراوح منسوبها بين 162 و165 مترا فوق سطح البحر.